الرباط: أطلقت الحكومة المغربية، التي كان يرأسها التكنوقراطي، ادريس جطو، نهاية 2004، ورش إصلاح الإدارة العمومية تمثلت في إجراء غير مسبوق من ناحية الكرم المالي الذي صاحبها، أطلقت عليه تسمية "المغادرة الطوعية" هدف إلى تحفيز الموظفين على مغادرة وظائفهم قبل وصولهم سن الإحالة على المعاش، مقابل منحهم تحفيزات مالية جد مغرية إلى جانب ضمان حقهم في التقاعد الكامل؛ وبالتالي فإنهم سيرتاحون من تعب التردد اليومي على العمل، وهم في سن تمكنهم من الانخراط مجددًا في سوق الشغل ما داموا قادرين ولم يكملوا العقد السادس من أعمارهم .
وأثارت العملية في حينها ردود فعل متباينة، فقد رحبت بها شرائح الاطر العليا التي استفادت منها ماليًا بشكل لم يخطر ببالها. فأن يترك الموظف شغله وهو في الخمسين من العمر، على سبيل المثال، براتب لا يقل عن الذي كان يتقاضاه خلال العمل، فتلك هدية نزلت عليه من السماء، بل يمكن القول إن كثيرين لم يصدقوها إلا بعد ان شرعوا في استلام مكافأتهم وأجورهم، حسب وضعيتهم الجديدة.
ويمكن القول إن الفكرة وقت تبنيها بدت مغرية وكفيلة بتحقيق الأهداف المبتغاة منها، وراج أنها بنصيحة من المؤسسات المالية الدولية. وكان في مقدمة الأهداف تقليص حجم كتلة الأجور الممنوحة للموظفين المرهقة بشكل متصاعد لميزانية الدولة، على أن يتولى حمل العبء الصندوق المغربي للتقاعد، بصرف مرتبات المتقاعدين.
وستنعكس سلبيات الإجراء بعد سنوات، على الاحتياطي المالي لصندوق التقاعد حيث تقلص إلى حد مقلق ما فرض على الحكومة التي تولاها عبد الإله ابن كيران، فتح ملف صناديق التقاعد بغاية إنقاذها من الإفلاس وعجزها على المدى المتوسط، عن الوفاء بالتزاماتها حيال الموظفين، رغم ما كلفه ذلك من انتقاد وهجوم.
وفشلت المغادرة الطوعية في تحقيق هدف "ترشيق" الإدارة العمومية، وتخليصها مما يسميه المصريون "العمالة الزائدة" التي تحولت بسبب ضعف تأهيلها إلى عبء كبير يحول دون تحديث الإدارة وإصلاحها، برفع كفاءتها وتجويد مردوديتها، باستبدال البنية البيروقراطية المتآكلة بمنظومة ناجعة لتحقيق الإقلاع الإداري الذي حاولته حكومة جطو، وتلك التي قبلها برئاسة عبد الرحمن اليوسفي لولوج عصر الإدارة الرقمية.
كانت النتيجة مخيبة للمغاربة، باستثناء من استفادوا مادياً من العملية. وقع تجفيف القطاعات الحكومية من خيرة الأطر والعناصر المدربة والمجربة وحدث نقص ما زال المغرب يعاني من تبعاته حتى الآن، وخاصة في مرافق خدمية أساسية للسكان مثل التعليم والصحة والتجهيز، بينما ظل الجهاز الإداري مثقلاً بصغار الموظفين المرتبين في السلالم الدنيا أي ضعيفي الأجور، كون تلك الفئة لم تجد مصلحة أو إغراء ماليًا يقنعها بجدوى مغادرة للعمل.
لهذه الأسباب وتلك التداعيات، ما زال المغاربة بنسبة عالية (أكثر من ثمانين في المائة) يعتبرون المغادرة الطوعية خطأ ارتكبته حكومتهم لما له من مضاعفات سيئة.
ولم تدافع العينة المستجوبة عن الإجراء ولم تجد له مبررًا مقنعًا إلا نسبة قليلة ظلت في حدود 11 في المائة، طوال مدة وضع سؤال الاستطلاع في "إيلاف المغرب" .
واكتفى حوالي 6 في المائة من المستجوبين بالإعراب عن الحياد والامتناع عن الإدلاء برأي؛ بل لاحظنا أن مؤشر الرفض تجاوز في بعض الأيام حاجز التسعين وقارب المائة. وهو معطى بالغ الأهمية، بعد مرور حوالي عقد ونصف عقد على إقرار المغادرة الطوعية أو "الديفيدي" كما اختزلتها في حينها التعليقات الشعبية الساخرة.
مشكل آخر أفرزته المغادرة الطوعية، انعكس على سوق العمل في المغرب، ذلك أن الفرص المحدودة المعروضة هي دون الطلب الذي ارتفعت معدلاته بدخول طالبين جدد هم المستفيدون من المغادرة وخاصة الأطر المؤهلة الذين زاحموا خريجي الجامعات والمدارس العليا وكليات الطب والهندسة، على اعتبار أن القطاع الخاص يشترط الخبرة إلى جانب أن عددًا من المغادرين المستفيدين، اسسوا مقاولات صغيرة ضيقت الفرصة على آخرين.
صحيح أن المغادرة لو خطط لها جيدًا وطبقت بصرامة وتحفيز صغار المستخدمين على المغادرة، ولو لم تقع فيها محسوبية، لكانت ناجحة ومفيدة من حيث أنها أنعشت دورة اقتصادية كانت راكدة وشجعت الكثيرين على التشغيل الذاتي؛ غير أن أخطاء التطبيق وغياب فكر التوقعات والسيناريوهات، أنتج العكس تمامًا، بشهادة تقارير موضوعية من جهات رسمية مثل مندوبية التخطيط في المغرب، وغيرها من المؤسسات ذات الخبرة في مجال تحديث الإدارة وتقييمها.
ولذات السبب، فإن المغرب يواجه في الإدارة حاليا نفس المشاكل وربما اصعب منها مثلما قبل إقرار نظام المغادرة الطوعية؛ فنسبة كتلة أجور القطاع العام مرتفعة قياسًا إلى الناتج الداخلي الخام من جهة، وهي تلتهم قدرًا مهمًا من الميزانية العامة ما يقلص نسبة الاستثمار الداخلي. وهذا ما أدركه رئيس الحكومة السابق عبد الله ابن كيران، الذي شجع الموظفين على المغادرة، دون أن يضمن لهم الامتيازات التي تمتع بها زملاؤهم الذين غادروا في إطار العملية الأولى.
في نفس السياق، يشار إلى أن الحكومة المغربية، بادرت في المدة الأخيرة إلى استباق مشاكل التوظيف في القطاع العام، فاقترحت عقود عمل محددة المدة، ما يجعل الموظف تحت طائلة تهديد الاستغناء عنه إذا لم يتقن عمله وافتقد روح المبادرة الذاتية لتحسين أداء المرفق الذي يشتغل به. وكما هو معلوم فقد اثار القرار ردود فعل اجتماعية من النقابات والأحزاب المغربية على حد سواء، فالقطاع العام في نظرها يجب أن يظل المشغل الأكبر إلى غاية انتهاء سنوات الخدمة مع ضمان كافة الحقوق والامتيازات.
وعلى الرغم من ان استطلاع "إيلاف المغرب" كسابقيه، يحاول قياس ردود الفعل التلقائية والعادية حيال مشكل من خلال أسئلة مباشرة ومحدودة، فإنه مؤشر دال على طبيعة النقاش المجتمعي في المغرب بخصوص معضلة التشغيل التي لا يمكن الخروج منها إلا بانطلاقة اقتصادية كفيلة بإحداث مناصب الشغل في القطاع الخاص، خاصة وأن الاتجاه في كثير من بلدان العالم يجنح نحو تحرير الدولة من مهام التدبير اليومي لتقتصر مهمتها على تدبير القضايا والملفات السيادية، إضافة إلى أن الثورة الرقمية ستعوض البشر على المدى المتوسط، وستحد من فرص العمل التقليدي، ما يعني أن الحكومات، كيفما كان توجهها، مطالبة بتشغيل خيالها لابتكار حلول لمشاكل قادمة حتمًا .
هل يعمد المغرب إلى تكرار المغادرة الطوعية، أم أن مسؤوليه غادروا الفكرة نهائيًا، واصبحوا غارقين في علاج مشاكل العملية الأولى ؟