: آخر تحديث
سوريا المتناثرة بين ثورتين:

هل تحتاج كتابة الدستور ثلاث سنوات؟

6
6
5

توطئة في مفهوم الزمن في كتابة الدستور
كتابة الدستور ليست مجرد عملية تقنية يتم فيها تجميع النصوص القانونية في وثيقة واحدة، بل هي إعادة صياغة شاملة للهوية الوطنية والقيم التي ستؤسس عليها الدولة. الزمن المطلوب لهذه العملية يجب أن يكون انعكاساً لحاجة حقيقية للتوافق، وليس مجرد تأخير مقصود أو نتاج صراعات خلف الكواليس. ثلاث سنوات تبدو فترة طويلة إذا ما قورنت بتطلعات شعب خرج من سنوات طويلة من القمع والصراع، لكنها قد تكون ضرورية إذا كانت تعكس حواراً وطنياً شاملاً وصادقاً.

سنوات الحرب وخبرة السوريين بالدساتير
خلال السنوات الأربع عشرة الماضية من الحرب، شهد السوريون صياغة العديد من مشاريع الدساتير التي وُلدت في سياقات سياسية واجتماعات متفرقة، بعضها برعاية إقليمية أو دولية. هذه التجارب المتكررة أكسبت السوريين خبرة واسعة في عملية كتابة الدستور، لكنها أظهرت أيضاً عمق التحديات المرتبطة بتوافق الأطراف المختلفة. فقد تمت صياغة دساتير في ورشات ومؤتمرات متعددة، إلا أن غياب الإرادة السياسية الصادقة واستمرار الصراعات، بل النهاية غير المتوقع للنظام بهذا الشكل، حال دون تحقيق توافق حقيقي على أي من تلك المشاريع.

الحكومة المؤقتة ومحدودية الدور
وجود حكومة مؤقتة لا يعني استمراراً لفكرة الدولة المؤقتة. هذه الحكومة، مهما كانت طبيعتها، يجب أن تكون جسر عبور نحو مرحلة دائمة ومستقرة. ومن هنا تأتي ضرورة تحديد مدة زمنية واضحة لعملها، على ألا تتجاوز الأشهر المعدودة. مهمتها الأساسية هي تسيير الأعمال، الإشراف على العملية الانتقالية، والتحضير لانتخابات حرة ونزيهة. من المهم أيضاً أن يُمنع أعضاؤها من الترشح في الانتخابات المقبلة، ضماناً لاستقلاليتها ولمنع استغلال السلطة المؤقتة لتحقيق مصالح شخصية.

عودة إلى الدستور
الدستور ليس مجرد وثيقة قانونية، بل هو مرآة تعكس هوية الأمة وطموحاتها. عملية صياغته تتطلب حواراً وطنياً عميقاً وشاملاً يشمل جميع مكونات الشعب السوري دون استثناء. ومع ذلك، يجب أن نتساءل، هل ثلاث سنوات كافية أم أنها طويلة جداً بالنظر إلى حاجة الشعب الملحة للاستقرار؟ السرعة في الإنجاز لا تعني التسرع، بل تتطلب كفاءة في الإدارة وحسن نية في العمل.

إحصاء ما بعد سقوط النظام
وضبط الهوية الوطنية ومراجعة سجلات السكان

ثمة قوائم لدى دول اللجوء ودول الجوار بأسماء السوريين الذين لجأوا إليها، أو حصلوا على الحماية أو جنسية ما بعد الحرب، كما أنَّ هناك أرومة في إدارة السجل المدني العام تحتوي قوائم للمواطنين الأصليين والمقيمين في سوريا قبل زمن الحرب بخمس سنوات، كما هناك قوائم بأسماء مكتومي القيد ناهيك عن سندات التمليك بأنواعها - شهادات الطلاب، أمكنة العمل - إلخ... فلدى كل هؤلاء ما يثبت مواطنيتهم عبر وثائق رسمية وشهادات معتمدة. هذه القوائم تشكل قاعدة بيانات موثوقة يمكن الاستناد إليها - وطنياً ضمن سوريا - لتحديد هوية السكان الأصليين وضمان حقوقهم.

إضافة إلى الوثائق، فإنَّ معرفة الجيران والمحيطين بهؤلاء الأشخاص تمثل مصدراً اجتماعياً مهماً يعزز من صدقية المعلومات المتوافرة. يمكن تشكيل لجان متخصصة ودقيقة، تضم ممثلين عن الأطراف الوطنية والمحلية، لمراجعة هذه البيانات، مع الحرص على استخدام آليات صارمة لتفادي التلاعب أو التزوير.

وفي هذا الصدد، فإنَّ أيّ محاولة للخداع أو تقديم معلومات مزيفة يجب أن تواجه بإجراءات قانونية صارمة. لأنَّ فرض المسؤولية القانونية على من يحاول استغلال هذه العملية سيضمن نزاهة العمل ويحفظ الحقوق، ما يسهم في استعادة الثقة بين الدولة والمجتمع.

ضرورة الانتخابات المبكرة وتحديد مدة الحكومة المؤقتة
الانتخابات في المرحلة الانتقالية يجب أن تكون مبكرة، فاستمرار حكومة الأمر الواقع لمدة أربع سنوات يبدو مفرطاً وغير مسوغ، إذ أنَّ طبيعتها المؤقتة تتطلب ألا تمتد لفترة طويلة. الهدف الأساسي من هذه الحكومة هو إدارة شؤون البلاد في الفترة الانتقالية وتسهيل الوصول إلى انتخابات حرة ونزيهة تعكس إرادة الشعب بشكل مباشر.

مدة أربع سنوات - مثلاً - تعني منح الحكومة المؤقتة صلاحيات تتجاوز طبيعتها وتسميتها ومهمتها، وهو ما قد يؤدي إلى تكريس وضع غير مستقر أو انحراف عن أهداف المرحلة الانتقالية. إذ يجب أن تكون الفترة الزمنية محددة بدقة، ومحدودة بما يكفي لضمان الانتقال السلس إلى حكومة دائمة منتخبة، مع الالتزام بتهيئة الظروف اللازمة لإجراء الانتخابات في أقرب وقت ممكن.

في غياب الدستور ومعضلة العناصر الأجنبية
وجود العناصر الأجنبية ضمن القوى العسكرية في سوريا يمثل إشكالية عميقة يجب معالجتها بشكل جذري، وتطبيق قرار واحد على جميعها. فلا يمكن النظر إلى هؤلاء كجزء من النسيج الوطني، لاسيما إذا كانوا يحملون أهدافاً تتعارض مع طموحات الشعب السوري. وأن منح الجنسية لهؤلاء أو ترقيتهم في زمن قياسي ليس سوى امتداد لسياسات سابقة ساهمت في إضعاف الثقة بين الدولة والمجتمع. ومن هنا فإنه يجب العمل على ترحيلهم بشكل قانوني وإنساني، مع تقديم التعويضات المستحقة لهم إذا كانوا قد قدموا خدمات فعلية، والدعاء لهم إن كانوا قد أتوا بحسن نية خدمة للسوريين، وثوابهم في ذلك عند الله سبحانه وتعالى!

أسئلة المرحلة الجديدة
في بداية العهد الجديد، يحق لكل مواطن سوري أن يطرح تساؤلات مشروعة حول مستقبل بلاده وكيفية تحقيق طموحاتها. هل يمكن الوثوق بأن القوى الجديدة قادرة على تجاوز المصالح الذاتية لتحقيق المصلحة العامة؟ كيف يمكن ضمان ألا تتحول المرحلة الانتقالية إلى مرحلة دائمة تحت مسمى المؤقت؟ هل سيُسمح للشعب بأن يكون المحرك الأساسي في صياغة المستقبل بدلاً من أن يكون مجرد متلقٍ لقرارات فوقية؟

ولهذا، فإنّ المرحلة الجديدة تتطلب استعادة كاملة للسيادة الوطنية، وهذه الاستعادة تبدأ من تحييد أي تأثير خارجي على عملية صياغة الدستور. ولا يمكن لوثيقة تمليها أطراف خارجية أن تعبر عن الإرادة الحقيقية للشعب السوري. السيادة ليست مجرد شعار، بل هي عملية يومية يتم فيها استعادة القرار الوطني من قبضة التدخلات الإقليمية والدولية.

أجل. إن أي تأخير في صياغة الدستور يجب ألا يكون نتيجة غياب الإرادة السياسية أو انعدام الكفاءة، بل ثمرة لحوار وطني شامل يعكس إرادة الشعب وتطلعاته. باعتبار أن الحوار الوطني ليس مجرد لقاءات بين النخب السياسية، بل هو عملية تشاركية يجب أن تشمل جميع الشرائح الاجتماعية، من القرى النائية إلى المدن الكبرى، لضمان أن يكون الدستور معبراً عن الجميع.

لأن سوريا الجديدة بحاجة إلى دستور لا يعكس فقط القوانين، بل يعبر عن الأحلام والطموحات. الدستور يجب أن يكون نتيجة لحوار صادق لا يخضع للإملاءات الخارجية، ولا يُنجز على عجل من أجل تحقيق مكاسب سياسية آنية. الزمن المطلوب لصياغته يجب أن يكون انعكاساً لرغبة حقيقية في تأسيس عقد اجتماعي جديد، لا مجرد أداة لإطالة أمد الصراعات أو تكريس هيمنة جديدة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف