ثلاثة أسابيع مرت على إسقاط نظام الأسد، ومازال الناس يتوافدون على الساحات العامة للاحتفاء بالنصر والمطالبة بمعرفة مصائر أبنائهم المفقودين قسرياً أو من اُعتبروا شهداء المعتقلات دون وجود جثامينَ أو رفاتٍ تحسم الشكّ وتنهي الانتظار. لحظتا الفرحِ بالحرية ومواجهة الفجيعة هما من القوة بحيث مازالتا تطغيان على المشاهد المتلاحقة من تشكيل حكومة مؤقتة وملاحقة فلول النظام البائد وغيرها. يبدو السوريون راغبين بالعيش في اللحظة الأولى، وعاجزين عن تجاوز الثانية.
أيّ نداءٍ ذاك الذي انتزعَ الزمنَ من إيقاعه الرتيب، وساقه كإعصار يجتاح المدنَ والقرى المنسية، يلقي ساعاته فوقها، ويمضي خفيفاً ليشهدَ قيامَ سيدة عواصم الدنيا! كلّ مدينة التقطت ساعة مجدها ونهضت. لم تسقط البلاد، بل أُعلِنتْ صديقة. استخدامُ القيادة العسكرية لهذا المصطلح الذي أطلقه الثوار عام 2011 على كل مدينة تنضمُّ للثورة كان رسالة أنّ المعركة هي استمرارٌ للثورة وليست عملاً منفصلاً، وأنّ هدفها الوطنَ لا الشقاقَ والانتقام. وبينما كان اللون الأخضر الذي يميز الأماكن المحررة على الخارطة يمتدُّ ويتسعُ ليغطيَ كامل إدلب وحلب وحماة وحمص أعلنَ المحررون الاختراعَ اللغوي الثاني: البلادُ خضراء، ورفعوا علمَ الثورة الأخضر مؤكدين ثانية انتماءهم لها والتزامهم بأهدافها وقيمها. صارت المفردتان "صديقة وخضراء" مرادفتين للحرية، وشهقنا في دمشقَ وريفها وجنوبها. شممنا أنفاسَ الحرية التي أمرعتْ في الشمال، فما استطاع جيشنا المضلَّلُ أربعة عشر عاماً احتمالها، وهرب مشتتاً، وما استطعنا الانتظار. هبّ الشعبُ يحرّر بقية البلاد، ويعلنها خضراء وصديقة.
أنباءُ تحرير المدن المتتابعة؛ صوتُ الرصاص الذي اقترب كثيراً؛ التهليلاتُ والزغاريد؛ وقلبي الذي اتّسع ليحضنَ البرهة العملاقة؛ كلُّ ذلك دفعني لأغادرَ البيتَ فجراً. أتأملُ جموعَ الناس التي خرجت عفوية تحتفل بالحرية. قوافل من السيارات تصلُ المكانَ، ويتشاركُ الجميعُ رجالاً ونساء وأطفالاً التكبيرَ والأغاني. أتأمل الشبابَ والفتية الذين التقطوا بنادقَ العسكر المنسحبين من الشوارع، وراحوا يطلقون النار في الفضاء بعزة وشموخ وعنفوان لم يعرفوها. أقلقُ من احتمالات الرصاص الطائش وغدرات الفوضى، لكنّ النشوة التي عربدتْ في صدري تتوحّدُ مع رصاص الثورة الملعلع. أهتفُ معهم مِلءَ قلبي للحرية والحياة الجديدة.
أهالي يضعون صور أولادهم المعتقلين في سجون الأسد لعل أحد شاهدهم ليتصل بهم (ساحة المرجة - دمشق)
هل ينفجرُ القلبُ من الحرية؛ من السعادة؛ من اقتلاع شجرة الكآبة المعمّرة فينا فجأة وترْكنا بلا عكاز؟ هل يحتملُ القلبُ سطوعَ هذه البرهة العملاقة التي تنبضُ بكلِّ ما مرّ بنا ويمرّ الآن وغداً، أم يصعقه تجلّيها الأخّاذ؟ تتراءى لي وجوهُ آلاف المعتقلين. وجهُ ابن أختي الفتيّ بعينيه الخضراوين المليئتين بالوعد والأمل والانتظار. أسيرُ في شارعي والدموعُ تنهمرُ سخية بلا توقف. أية نعمةٍ أن نرى النفقَ يتحطم فجأة ويغمرنا النور! أية نعمة أن نعيش تلك اللحظات الخرافية المكتنزة بفرح الشعب الجبّار وخلاصه من الاستبداد والطغيان قبل أن نبدأ رحلة البحث عن معتقلينا؛ رحلة الألم ومواجهة الفجيعة كاملة!
أمضي من جامع لآخر بحثاً عن المعتقلين المحرَّرين. تصدمني الأعدادُ الهائلة للناس المتجمهرين بانتظار خبرٍ عن أحبتهم. يختفي صوتي، فأنتظر طويلاً لأتمكّنَ من سؤال أحد شباب الهيئة. يخبرني أنّهم أوصلوا الناجين إلى بيوتهم، ولم يتبقَّ إلا فاقدي الذاكرة. أدركُ لحظتها أنّ فجيعتنا تمتدُّ على كامل تراب الوطن، وأنّ معظمَ معتقلينا قتلوا قبل أن يصلَ الثوارُ إليهم. أملٌ أخيرٌ وتعيسٌ يدفعني للدخول. كان الجامعُ يغصّ بلجانٍ تسجّلُ أسماءَ معتقلين لم يُعرف مصيرهم بعد وأرقامَ هواتف أهاليهم لتترك لنا بقية أمل، وبين تلك اللجان افترشَ بعضُ الأهالي الأرضَ وناموا من التعب والإنهاك بعدما داروا على كلّ سجنٍ وجامع ومشفى داخلَ المدينة أو بين المحافظات.
مئاتُ الآلاف من معتقلينا لم يرَوا سقوط الطاغية والجلّاد. لم يشهدوا انتصارَ الحقّ، ولم يبتهجوا به لأنّ حقدَ المجرمين لا يسمحُ لصمودهم أن يصبحَ أغنية تتغنى بها الأجيال. غابت أصواتهم وشهاداتهم. اختفت مصائرهم بين متاهات السجون وعقول صنّاع الجريمة الفارّين. لا جثامينَ لدينا نكلّلها بالغار في الجنائز. تدثّرنا بأطيافهم وبقايا أحلامهم، وخرجنا إلى الساحات نهتف: هنا دمشق الأبية. هنا سوريا الحرة.
أولُ ما قام به الثوارُ في المدن المحررة فتحُ السجون.
في دمشق وريفها توجّه الأهالي مباشرة إلى سجن صيدنايا الرهيب ليحرّروا فلذاتِ أكبادهم.
لحظة إطلاق سراح المعتقلين هي اللحظة الثانية الخالدة في انتصار الثورة السورية، وهي لا تقلّ رمزية عن فتح الباستيل إبان الثورة الفرنسية. تدفّقت بعدها مئاتُ الصور والفيديوهات على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لتروي ملحمة شعبٍ أعزل ثارَ ضد الطغيان، فعوقبَ جماعياً بأشدّ أنواع القتل والخطف والتعذيب.
صورُ السجون القذرة وآلات التعذيب الجهنمية فيها؛ شهاداتُ الناجين القلائل؛ آلافُ الأهالي اللّائبين حول خبرٍ عن ذويهم المفقودين يرفعون صورهم في الساحات، ويعلّقونها على النُّصب والصروح، ويجوبون بها الشوارعَ علّ أحداً يعرف شيئاً عنهم؛ المقابرُ الجماعية المكتشَفة يوماً بعد آخر؛ كلُّ هذه المشاهد كانت كافية لتهزّ العالمَ وتجعله ينظرُ إلى ثورة الشعب السوري بطريقة مختلفة. فجأة تراجعت معظمُ الدول والشعوب عن التشكيك بنا واتهامنا بالخيانة والعمالة. فجأة اختفى أحباؤنا إلى الأبد فقدّم العالمُ لنا كلماتِ التعاطف. هم مَن منحونا البراءة وليس ضميرَ العالم. هم وحدهم صوت الفجيعة وصورة الفضيحة التي اكتملت بفرار الرئيس القاتل.
ترافقَ ميلادُ الحرية بخصوبة في المصطلحات وفي الطاقات البشرية المتطلعة إلى العمل والبناء. منذ الساعات الأولى ظهرتْ على جميع منصات الإعلام والتواصل اعتذاريّاتُ مشاهير السياسة والفن والإعلام عن دعمهم السابق لنظام الأسد، والتي قابلها السوريون بإطلاق مصطلح (التكويع) عليها معبّرين عن المواقف الجديدة لهؤلاء المكوّعين بنكهة نقدية ساخرة أو غاضبة أو متسامحة مرحة. كذلك عبّر الشبابُ والشابات عن انتماءٍ حقيقي يُولد الآن، فهبّوا لمساعدة الحكومة المؤقتة بتنظيف الشوارع وتنظيم حركة المرور خالقينَ أدواراً جديدة للمُواطن البنّاء في وطنٍ يُبعَثُ إلى الحياة.
في مشهد سرياليّ صارخ تداخلت أصوات القصف الإسرائيلي مع هتافات الحرية. حاولت أن تعلوَ عليها. تشوّهها. الجماهيرُ في الساحات تحتفل بالحرية، والكيانُ الغاصب يتمادى ويتوغل في جنوبنا مستغلاً فرصة التغيير والانفلات الأمني. فأن يُدمَّرَ سلاحُنا بالكامل ولا نبالي ذاك منتهى العار برأي البقيةِ المشكّكةِ بثورتنا والتي تتجاهل أنّ هذا السلاحَ لم يكن يوماً لنا وإنما علينا. بَلى مازلنا كالمخدرين بنشوة النصر والحرية. اعتنقنا اللحظة الخالدة في تاريخنا، لحظة المجد والخلاص التي انتظرناها عمرنا كلّه، فارتوينا بالحياة والعزيمة، واحتملنا هولَ الفقد والمصاب؛ الفضيحة الكبرى في صيدنايا والمقابر الجماعية، واحتملنا مشاعرَ الخوف على البلاد. كنسورٍ بأجنحةٍ من خوفٍ وألمٍ وفرحٍ نحلّق. نغنّي وجمرة الغضب تتّقد في الأعماق. نغني والإيمان يتوهّج فينا أكثرَ من أيّ وقت مضى بعودة الحقّ إلى أصحابه.