في تاريخ الإعلام العربي خلال العقود الخمسة المنصرمة، برزت شخصيتان متميزتان أسهمتا بتشكيل مشهد الصحافة والإعلام بشكل لا يمكن تجاوزه: عبدالرحمن الراشد وعثمان العمير.
ورغم أنهما ينتميان إلى جيل واحد، فإنَّ لكل منهما مسيرة مهنية مختلفة، ويتميزان بأسلوب خاص في التأثير على المجال الإعلامي العربي، إذ تمكنا، بفضل رؤاهما الثاقبة وإدارتهما المتميزة، من بناء مسارات إعلامية مدهشة ومؤثرة، وخلق حالة من التأثير على الجمهور العربي لعقود من الزمن. الاختلاف بين المدرستين لا يتعلق بالمسيرة المهنية فقط، بل يمتد إلى الطريقة التي يفكران بها حول دور الإعلام ومستقبله.
يعتبر عبدالرحمن الراشد واحداً من أكثر الإعلاميين تأثيراً في العالم العربي، بفضل عمله الطويل في الإعلام المرئي والمكتوب. الراشد، الذي شغل منصب رئيس تحرير صحيفة "الشرق الأوسط" قبل أن يتولى إدارة قناة "العربية"، اشتهر بتحليلاته العميقة للقضايا السياسية والاجتماعية التي تهم العالم العربي. وهو يتمتع بنظرة ثاقبة إلى مشكلات المنطقة، ويُعرف بدعمه أفكار الإصلاح والتحديث.
مدرسة الراشد في الإعلام تتميز بالجدية والعمق في الطرح. إنَّه يرى أنَّ الإعلام ليس مجرد أداة للتأثير السطحي على الرأي العام، بل هو وسيلة لفهم القضايا الجوهرية التي تشغل العالم العربي، وتقديم تحليلات مبنية على الوقائع والأدلة. لقد نجح في جعل قناة "العربية" وجهة رئيسية للأخبار والتحليلات في المنطقة، من خلال نهجه الذي يجمع بين الأخبار الفورية والتحليل الاستراتيجي.
لكن الراشد لم يكن مجرد رجل تقارير وأخبار؛ بل كان صاحب رؤية تتجاوز اللحظة الراهنة، حيث كان يركز على ضرورة أن يحمل الإعلام رسائل إصلاحية، تسعى إلى فتح آفاق جديدة للجمهور، والتأثير على صناع القرار، من خلال تقديم محتوى يعتمد على المعلومة الدقيقة والتحليل المتوازن. يمكن القول إنَّ مدرسة عبدالرحمن الراشد الإعلامية تنظر إلى الإعلام باعتباره شريكاً أساسياً في عملية التغيير والتطوير الاجتماعي والسياسي.
على الجانب الآخر، نجد صانع الأسئلة الصعبة عثمان العمير، الإعلامي الذي يمكن وصفه بالمغامر والجريء في مجال الصحافة والإعلام. أسَّس صحيفة "إيلاف" الإلكترونية بعد مسيرة طويلة في الصحافة التقليدية، وخاصة عبر توليه رئاسة تحرير صحيفة "الشرق الأوسط". لقد كان رائداً في التحول الرقمي للإعلام العربي، ومن خلال منصته الإلكترونية، استطاع العمير فتح ملفات شائكة، وطرح قضايا قد تكون في بعض الأحيان محرجة وغير مريحة للكثيرين.
أسلوب العمير يتميز بالقدرة على طرح الأسئلة التي يتجنبها الكثيرون. لم يكن يسعى إلى أن يكون مجرد ناقل للأخبار، بل كان يريد أن يشكل نقطة تحوّل في طبيعة الحوار الصحفي العربي. مع "إيلاف" لم يتبع العمير الطرق التقليدية، بل ابتكر أسلوباً جديداً في الصحافة الإلكترونية يقوم على الاستقلالية والتحرر من القيود التي فرضتها الصحافة الورقية.
مدرسة العمير الإعلامية قائمة على الجرأة والابتكار. لا يخشى طرح الأسئلة التي تعتبر (تابوهات) في الإعلام التقليدي، بل يسعى إلى كسر هذه الحدود والتحديات. لقد ساهم بفضل هذه الروح المغامرة في خلق مساحة حوارية مفتوحة لا حدود لها، تسمح بالآراء المختلفة، حتى تلك التي تعتبر غير مرغوب فيها من قبل العديد من المؤسسات الإعلامية التقليدية.
رغم أن الراشد والعمير يتشاركان في كثير من المحطات الإعلامية، فإنَّ الصراع الفكري بين المدرستين يمكن أن يُرى من خلال طريقة تعاملهما مع الإعلام. الراشد يميل إلى التحليل العميق والموثوقية في نقل الأخبار والتحليلات، بينما العمير يسعى إلى كسر القيود وتقديم الجديد والمختلف، حتى وإن تطلب ذلك مجازفات مهنية.
شخصياً، أعتقد أنَّ جمال هذا الصراع بين المدرستين يكمن في أنهما تكمّلان بعضهما بعضاً؛ فبينما يدعو الراشد إلى إعلام مسؤول ومنطقي يسعى إلى التأثير البناء، يأتي العمير ليطرح أسئلة غير مريحة ويتحدى الوضع الراهن، مما يخلق حواراً دائماً بين الطريقتين في التعامل مع الإعلام.
رغم الصراع الظاهري بين المدرستين، هناك اتفاق واحد بين الراشد والعمير: أنَّ الإعلام يجب أن يكون وسيلة للتأثير وتغيير الرأي العام. كلاهما، رغم اختلاف طرقهما، يسعى إلى التأثير الحقيقي والجاد في العالم العربي، سواء عبر تقديم الأخبار والتحليلات الموثوقة أو طرح القضايا التي تتجنبها المنصات التقليدية.
يستمر الصراع بين المدرستين، لكن في النهاية، هما وجهان لعملة واحدة، عملة الإعلام المؤثر في المنطقة العربية. وفي ظل التحديات الجديدة التي يواجهها الإعلام، مثل وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي، يبقى الرهان على التميز في الطرح والجرأة في الأسئلة هو العامل الذي سيساهم في بقاء تأثير هاتين المدرستين في الإعلام لعقود قادمة.