في عقد السبعينيات من الالفية الماضية، کنت من المدمنين على التدخين، وکان هناك صديق يدخن أيضا لکنه لايحمل معه علبة سيکاير أبدا، وکان دائما يقوم بفتح أصبعيه "السبابة والوسطى" أمام أي واحد من مجموعة الشعراء والادباء والمثقفين الذين کنا نجلس معا في مقهى" قلعە دزە" والذي کان يقابل سينما سيروان في مدينة السليمانية، وعلى الرغم من إن البعض من الاصدقاء کان يرفض ذلك أو حتى يقول له إذا کنت مدخنا فعليك شراء علبة سيکاير، إلا إنه مع ذلك کان مستمرا على تصرفه هذا حتى أصبح کعادة له، ويجب أن أستدرك بأنه لم يکن فقيرا معدما، بل کان کما يبدو من هندامه ميسرا، وذات يوم سألته بکل جدية: ما قصتك؟ لماذا أنت مصر على هذه العادة التي من الممکن أن تحط من شأنك ولماذا لا تتخلى عنها؟ فأجابني وبکل هدوء: طالما کان هناك من يملأ الفراغ بين أصبعي، سوف أستمر، لم أواجه لحد الان الوضع الذي يجبرني على تغيير عادتي هذه!
هکذا هي الحياة، عندما تصطدم بالحواجز والعقبات وعندما تجد الطريق مسدودا أمامك فإنه تضطر لتغيير مسارك وأسلوبك، والعکس صحيح. وکثيرا ما نرى أناسا فضوليين أو طفيليين يستمرون على ما هم عليه، وعندما يسألهم البعض عن السبب وراء ذلك، فإنهم يجيبون: الامر متاح وميسر لي، فلماذا لا أستمر عليه!
خلال الشهريين المنصرمين عموما والاسابيع الثلاثة الاخيرة، لفت نظري عدد ملفت للنظر من المقالات وکذلك من اللقاءات التلفزيونية التي تعمل بصورة وأخرى على "تشطيف" أدران وترسبات 44 عاما من التأريخ المشبوه للنظام الايراني. وحتى إن البعض قد وظف نفسه مدافعا عصورا عن هذا النظام وعن ضرورة الالتفات إليه وفتح الاحضان له لأن "الضرورة تستدعي" ذلك وإن هذا النظام شئنا أم أبينا "أمر واقع لا بد لنا من تقبله"، والمثير للتهکم إن بعضا منح نفسه الحق لتعليل ما قد إرتکبه هذا النظام من أخطاء ونشاطات مشبوهة بأن ذلك کان بسبب العزلة التي کان يعانيها وعدم الانفتاح عليه إقليميا ودوليا.
نظرية ولاية الفقيه التي يستند عليها هذا النظام منذ تأسيسه وبموجب مبادئها ومنطلقاتها بنيت معظم مٶسسات النظام وتم تشريع قوانينه وعلى ضوء هذه النظرية رسم ويرسم نهج النظام وسياساته العامة والخاصة، بمعنى، إن ليس هناك من أية عوامل خارجية إضطرته أو تضطره لکي يسلك هذا النهج الذي کان کما نعلم جميعا إنه الصندوق الاسود وراء کل تصرفاته ونشاطاته المريبة، وأجد من الافضل لأولئك "المبررين"، أن يحتفظوا بتبريراتهم وحتى يحافظوا عليها ولا ينسونها في المستقبل المنظور کي يعلموا ويعلم من صدقهم، بأنها لم تکن إلا أضغاث أحلام.
الأولى بهٶلاء الذين يرهقون أنفسهم من أجل تبرير 44 عاما من النهج المشبوه لهذا النظام، أن کانوا يطرحون سٶالا مهما وحيويا عوضا عن هذا العبث واللعب بالکلمات وهدر أوقاتهم، السٶال هو: لماذا إستمر هذا النظام على نهجه في المنطقة والعالم ولم يتخلى عنه؟ طبعا حتى في الموارد الفقهية والشرعية عندما تواجه حالة أو وضعا فوق طاقتك أو غير ملائم لك بالمرة، لا تجد مناصا من أن تسلك طريقا وسبيلا آخرا. والنظام الايراني لم يواجه هکذا حالة أو وضعا، بل ظل يلعب بطريقة أسمح لنفسي بوصفها بطريقة "شيطانية"، فهو کان على الدوام يلعب لعبة القط والفأر، الکر والفر وحتى لعبة "الاستغماية" کما يسميها المصريون، ولذلك فإن العالم وبشکل خاص البلدان الغربية وفي المقدمة الولايات المتحدة الامريکية من أتاحوا لهذا النظام کل أسباب الاستمرار بنهجه المريب هذا.
لو کان هذا النظام قد واجه موقفا دوليا جديا في تدخله الاول في لبنان وزرع وفرض ذراعه الاول في المنطقة، هل کان سيلجأ الى زرع أذرع له في بلدان أخرى في المنطقة؟ لو کان هذا النظام واجه موقفا دوليا حازما وصارما عندما بنشاطات إرهابية في لبنان والکويت والسعودية والارجنتين وغيرها، هل کان سيتجرأ على مواصلة هذه النشاطات؟ لو کان هذا النظام قد واجه موقفا غربيا حازما في مساعيه من أجل إمتلاك القنبلة النووية، هل کان البرنامج النووي للنظام سيتطور الى ما هو عليه الان بحيث يقال إنه على مسافة قصيرة من صناعة القنبلة النووية؟
هذا النوع من التعامل الدولي مع هذا النظام المثير للجدل، لا أدري على ماذا يمکن أن يبنى غير أهداف وغايات مشبوهة للغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا، ولأن کان هناك من يراهن على قوة وثبات هذا النظام، فإنني واثق أکثر من أي وقت مضى بأنه في أضعف حالاته "وهذا هو سر تهافته على التواصل وبناء العلاقات مع العالم خلال الشهرين الماضيين"، لکنني مع ذلك أجد من المفيد جدا هنا أن ألفت النظر الى کلام بالغ الخطورة ورد على لسان ابو القاسم دولابي، الممثل الخاص لإبراهيم رئيسي للشٶون الدينية، خلال تقرير قام بتقديمه لرئيسي قبل فترة قصيرة نسبيا، حيث جاء فيه: "من حوالي 75 الف مسجد في البلاد، أبواب 50 ألف مسجد مغلقة، وهي مأساة يجب أن نذرف الدموع الدموية من أجلها"! هذا ممثل خاص لرئيسي يقدم هکذا إعتراف خطير، وهذه الحالة ليست مجرد خلل في الاساس الايديولوجي للنظام بل وحتى أکثر من ذلك، وإن التفکير والتمعن فيه يشير الى أن النظام قد وصل الى طريق مسدود وبات يواجه تحديا غير مسبوقا يرتبط بالاساس والعمق الايديولوجي له، ولذلك فإنه يلجأ للتوسل بالعامل الخارجي من أجل أن يستمد القوة والثبات من ذلك لمواجهة هذا التحدي وغيره من التحديات التي باتت ترهقه وتجعله يشعر ليس بالخوف فقط بل وحتى بالرعب منها، فهل فات هذا الامر البلدان الغربية أو من يعنيه الامر أم إن في الامر مسائل أخرى من قبيل المعنى في قلب الشاعر؟!
الشيطان لا يمکن أبدا أن يصبح وديعا ومسالما طالما کان هناك ما يسمح له باللعب على بني آدم، وهذا النظام سيستمر فيما دأب عليه ولن يتخلى عنه أبدا طالما إستمرت الحالة الدولية والاقليمية على ماهي عليه، ومن يرى أو يمني بغير ذلك، فأهمس في أذنه وبکل ثقة وإطمئنان: في المشمش!!