فسادٌ وديونٌ وخرابٌ يتكاتفون على نخر كيان الخطوط العراقية. صفقاتٌ تُعقَدُ في السر والعلَن لتُعجِّل بقتل (الطائر الأخضر) الجميل برصاصة الرحمة. وها هو اليوم يطير حزينًا وكئيبًا وخجولًا في سماء العالم، مرتديًا ملابسَ رثة، متحركًا ببطء عقيم، وأمنياتٍ مؤجَّلة، وهو يشاهد الطيورَ الأجنبيةَ الجميلة التي كان يُعلِّمها فن الطيران، ويشرح لها فنون الفخامة والذوق منذ أطل بإطلالته الأولى على سماء البشرية عام 1945.
صارت الدنيا تطير بالمقلوب؛ طائراتنا غارقة بالجوع والفقر، وبلدان أخرى كانت تتمنى أن تكون طائراتها مثل (طائرنا الأخضر)، واليوم تتباهى بجمال طائراتها وأناقتها ورونقها وحضورها الدولي؛ بينما بلاد الأخضر التي يغرقها النفط، لا أحد يُعينها على إعادة أمجادها ورشاقتها وهيبتها القديمة.
منذ عقود قريبة جدًا كانت الطائرة العراقية عندما تهبط في أوروبا تُفتح لها المطارات بإعجاب واحترام وتقدير، وكان البهاء يطل من لونها الأخضر الزاهي، معبرًا عن هيبة دولة العراق الشامخ، ورشاقة طياريها، وفخامة خدماتها، وأمان طيرانها، ورزانتها في الإقلاع والهبوط.
كم كان الأجانب يتزاحمون بشوق ولهفة على الحجز في رحلات طائراتنا؛ لثقتهم العمياء بها؛ فالمشروبات تُوزَّع مجانًا، ووجبات الطعام الشهية (خمس نجوم) تُعانق فيض الكرم العراقي، والمضيفات الرشيقات في أبهى صورة وأروع وخدمة، والمضيفون الشباب، بسُمرتهم العراقية، يعملون ويتصرَّفون بأدبٍ جَم، ودبلوماسية راقية. كنا، وياما كنا، نطير بمتعة وراحة، دون أن نفكر بالخوف المهول من المجهول؛ حيث طيارونا يتمتعون بالشجاعة وبالرشاقة في الهبوط والصعود.
كان صديقي على حق عندما قال: كيف تريد للأخضر أن يكون زاهيًا وجميلًا، وقادة بلدك غارقون في الفساد والقتل وتجهيل الناس بثقافة الطوائف والقوميات والغيبيَّات. ألم تقرأ تقرير هيئة النزاهة حول كوارث الفساد في الخطوط العراقية؟!، وكذلك الصفقات السرية بين الأحزاب، وتوزيع الغنائم بالتساوي على الجميع، وتمزيق أحشاء الدولة.
قلت له: ولكن السوداني بدأها من المطار؟
قال: وهل رأيتَ تغيُّرا في الخطوط بعد الهرج والمرج، وبعد ضجيج الكلام والانفعال الاستعراضي؟!
قلت: بالطبع لا؛ ولكنه حارب الفساد بقوة، والأمر يحتاج إلى وقت؛ فلربما يا صديقي بزغ نور الأمل في نهاية نفق العمل.
قال: لا يُوجد أملٌ في القضاء على الفساد؛ لأن الرأسَ مصابٌ بالعفونة، واخترقته رائحة جيفة الفساد فهلهلته. هل نسيت "سرقة القرن" ونهب (2.5) مليار دولار من ضرائب الشعب العراقي؟ أما ترى سُرَّاق العراق وهم يتجولون الآن في الخليج وأوروبا بكل أريحيَّة وحرية، ويتمتعون بالمال الحرام المؤدلج بالفتاوي الدينية؟!
وأضاف وهو يستعرض تقارير هيئة النزاهة العراقية، بنبرة ممتزجة بالألم والحسرة: خسائر الخطوط بلغت (37) مليون دولارًا؛ كعقود مع شركة ميتزنس البريطانية، وتوقفت (18) طائرة من أصل (35) طائرة من أسطول الخطوط، بخسائر (37) مليون دولارًا لتصليح الطائرات المعطلة. كما قامت الخطوط الجوية العراقية بإبرام ثلاثة عقود تشغيل مشترك، ليست ذات جدوى، مع شركات أجنبية ومحلية، بنسبة أرباح (74) بالمائة لمصلحة الشركات المتعاقدة؛ ما تسبَّب في خسائرَ كبيرةٍ لشركة الخطوط العراقية، بلغت نحو (750) مليون دينارًا. ولا ننسى أيضًا أن هناك نحو (4149) موظفًا في الشركة، وهو ما يزيد عن الحاجة بمقدار الضعف، والذي يزيد الطين بلة تلك الرواتب الخيالية التي تُعطَى لبعض الخبراء!
كنت مقتنعًا بما قاله صديقي؛ فهو رجل علم، يؤمن بالأرقام والوثائق، لا بالقيل والقال. وقد اكتشفت خفايا وبلايا داخل هذه الشركة، وصُدِمت بصفقاتٍ خياليةٍ، لا يُصدقها عقل، بين أحزاب الفساد، ومافيات الدمار والتخريب؛ يعطلون (الطائر الأخضر) عمدًا لصالح بعض الشركات الأهلية، ومنها: شركة "فلاي دبي"، ويُناورون بهتانًا وتضليلًا بعقد "أطلس جت" التركية لتشغيل ثلاث طائرات عراقية لاختراق الأجواء الأوروبية، بعد حظرها التحليق في أجوائها؛ لعدم توافر السلامة منذ عام (2015). والقصة لا تزال في بدايتها، فالفساد لا يزال فاعلًا، ولا أحد يجرؤ على الحديث حتى ولو بالهمس!
لقد اكتشفتُ بالتجربة الميدانية، وأنا أركب الطائرةَ العراقيةَ بعد سنواتٍ من الهجران لها، أنها ما تزال تعاني مشكلات مركَبة من جرَّاء الفساد المالي والإداري، وترهُّلاتٍ في جسدها وفريق عملها وخدماتها. فمكتوبٌ عليك ألا تؤمنَ بالزمن وعقارب الساعة، حيث يمكن أن تنام في المطارات ساعاتٍ دون أن تقلق بقدومها أو رحيلها. فقط اترُك الأمرَ للقدَر كي يُحدد لك متى الرحيل. ومتى الوصول!
كذلك المضيفات وقد فقدن سحر جمالهن ونبض رشاقتهن؛ بسبب تقدُّمِ العمر، والمضيفون أيضًا، من الشباب والكبار، يحتاجون إلى فن التعامل واللباقة وسرعة البديهة والذكاء، ومعرفة بالأمن والحماية والسلامة؛ أما عن الطعام فحدث ولا حرج؛ فهو لا يرتقي إلى ارتفاع سعر التذكرة!!، وينتابك إحساس مُقزِز بأنك في سوق الصفافير بسبب هرج ومرج الكبار والصغار معًا؛ فالسيطرة مفقودة من قِبَل طاقم الطائرة، والمسافرون كأنهم في يوم المحشر والمنشر، يتبادلون الكلام بالصياح والنواح والخناق والزعيق.
ذات مرة تم توزيع الماء بطريقة غير لائقة، وكأننا في سجن كروبر أو في مخيمٍ للاجئين. وقبل أسبوع أنبأني مدير مكتب الخطوط في دبي بحدوث مشادة بين مضيف الطائرة ومسافر عراقي في مطار دبي، تسبَّب في تأخُّرِها لساعات، وفي خسارة مالية كبيرة للخطوط من جرَّاء هذه المشكلة.
عندما ذهبتُ لشراء تذكرة السفر المُخفَّضة في دبي، ومعي بطاقة التقاعد؛ اعتذر المكتب لعدم وجود تعليمات، وقيل لنا: بأن مكتب السعدون هو الوحيد في العراق له صلاحية بيع التذاكر المخفضة للمتقاعد. ومما زادني تأففًا ولوعة أنني اكتشفتُ عدم تمكني من شِراء التذكَرة إلكترونيًّا؛ لأن الخطوط خارج تغطية الزمن!!!. كما أنه لا يحق لي استرداد مبلغ التذكرة في حالة عدم السفر؛ إلا من خلال مكتب (السعدون)، والتبرير هو الخوف من الفساد، رغم أن الخطوط مُلطَّخة بالفساد الأسود، وبحيتان الفاسدين المدعومين بالسلاحِ والنفوذ!
أمسِ، حلُمت حُلمًا مزعجًا، سمعت فيه كابتن الطائرة العراقية يُرحب بالمسافرين، ويطلب إليهم الهدوء، تمهيدًا للهبوط الاضطراري! استيقظتُ فزِعًا، ولم أتمالك نفسي من البكاء الحار على عراقنا الموءود، وعلى (الطائر الأخضر) الذي ذبحه الأشرار، ثم قاموا بنتف ما تبقى من ريشه الجميل!