"شيء من ألاعيب الحبّ العابر غير الثابت"
يشيع البعض فكرة وجود الحب من اول نظرة وكأنها واقع فعلي راسخ يعضّد المحبة والتوادّ بين اثنين أعجب احدهم بالآخر على حين غرة ودون سابق معرفة سوى انهما تبادلا النظرات وتغلغل الحب بينهما دون مقدمات وإيهام الإحساس بان العين عشقت قبل العقل والقلب والمشاعر، وتناسينا ان هذا الحب المفاجئ ما هو الا إثارة ووخزة لحبٍّ كان نائما وصحا بعد ان سطع ضوء الإبهار الذي يُعمي البصر قبل البصيرة ولا يؤذن بدوام الحبّ أمدا طويلا وقد تكون غاية استمراره بضعة شهور حتى تبدأ اليقظة العقلية لتنبئ الطرفين ان العاشقين الواهمين قد أخطآ الطريق السليم وسلكا العثار والمطبّات قفزا وميلا غير مستقيم.
قد تكون الشهور الاولى لحبيبَي النظرة الاولى مفعمة بالرومانسية والتعلّق والانبهار لكن سرعان ما يصطدم الاثنان بواقعٍ مرير بعد يقظة من حلمٍ خاطف حافلٍ بالسرور والبهجة الى واقع مرير وثقيل في وطأته على الطرفين ويتمنى الاثنان ان يفسخا عقد الحب بعد مرور زمن كافٍ أشبعا فيها عواطفهما خلال فترة الطفرة العابرة التي عاشاها في مشاعرهما مع اننا لا ننكر ان علاقة الحب من النظرة الاولى تبدأ وهي مفعمة بالمشاعر الجيّاشة وخلق الأجواء الرومانسية الساحرة والتعايش في خدَر الحب والأحلام الوردية، وحالما تنتهي تلك الأحلام والأطياف الملوّنة يجيء الواقع القاسي القلب ليوخز الاثنين بان الحفل الجميل قد انتهى وعليهما ان يغادرا ويودّعا بعضهما.
الحب من النظرة الاولى في اغلب حالاته يمكن ان نعدّه إثارة وإعجابا مفرطاً قوامه الشكل الظاهر والطلعة الاولى وما يصاحبه من اندهاش في الرؤية السطحية دون الرويّة العقلية كمن تثيره ألاعيب المكياج وتبهره مسحات احمر الشفاه والألوان والمزركشات الأنثوية التي سرعان ما تزول مع مرور الزمن فالنظرة الى الأعماق والباطن تتوه وتعمى أمام سحر المرأى الملفت الجميل الذي استعار جماله من المساحيق والأزياء ليكون قواما مصطنعا يثير الأنظار، إنه فريسة فخٍّ صائد يأخذك الى شباكه الحريرية فتهنأ بنعومة ملمسه وتنسى انك معتقلٌ في داخله.
ومثل هذا الحب من النظرة الأولى والقائم على الإثارة والإعجاب يكاد يفتقد الرابط العقلي والعاطفي الذي يتطلبه الزواج باعتباره رباطاً مقدساً مباركاً يساهم العقل والعاطفة في صنعه وتديمه كثرة المعاشرة والمساكنة والألفة الطويلة اذ من المحال ان يدوم طويلا طالما توكأ على رؤية واحدة ونظرة إعجاب متعجلة.
فالعزم على الزواج وصواب الاختيار قد يستغرق عدة شهور او ربما سنوات لفهم احدهما الاخر فهماً تختلط فيه المشاعر الجياشة الكامنة في القلب وتؤذن للعقل بان القناعة قد رسخت للارتباط بعقد محبة وتوائم وانسجام وحياة مشتركة قائمة على الرضا بالطرف الآخر مما يمهّد للحبّ ان يتأرجح بين الزوج والزوجة ويمرح بينهما ويملأ البيت بهجة وسعادة وتزداد بمرور سنوات المعاشرة والمساكنة حيث يتآلف العقل والقلب معا ويبنيا عشّ الزوجية لبَنةً لبنة كي يكتمل.
فما زالت كلمات صديقي وزميلي الذي أحبّ فتاةً ضمن هذا الطراز منذ أول رؤيته لها بعد تخرجه من الجامعة وكنا معا زملاء طيلة سنيّ الدراسة في آداب بغداد وتباعدنا بعدها، وحين التقيته مؤخرا عن طريق الصدفة؛ سألته عن أحوال زيجته ظانّاً انها في كنفهِ الى الان فقال لي ضاحكا:
"أحببنا بعضنا مذ أول نظرة وافترقنا متراضين بعد اول سنة من العِشرة حيث توقفت ماكنة الحب بعد نفاد وقودها"