"بإسم الشعب قررنا مايلي"، هذه العبارة التي طالما سمعناها في محطات الاذاعة والتلفزيون، هي عبارة براقة في ظاهرها لکنها مطاطية وغامضة في أکثر الاحيان بل وحتى إن هذه العبارة تکون في واد والشعب في واد آخر، خصوصا عند إعلان بيانات الحروب والاعدامات والتنکيل الذي يقوم به الانقلابيون برفاقهم بعد الاختلاف على تقسيم الکعکة.
العودة للأحداث والتطورات التأريخية المعاصرة في بلدان العالمين العربي والاسلامي والبحث في خلفياتها وجذورها التعليلية، نجد إن دور الشعوب فيها کان على الاغلب سلبيا، وکان دوما دوره منحصرا في عبارة "مات الملك عاش الملك"، وقطعا فإن النظم الجمهورية في منطقتنا أو بالاحرى النظم التي تأسست على أثر الانقلابات، لاتستثنى من هذه العبارة، بل إنها المعنية أکثر من غيرها، ذلك إنه وعندما تطيح مجموعة إنقلابية بمن يمسکون بزمام الامور في بلد فإنهم سيعلنون بيانهم الاول بإسم الشعب ويزعمون إن الشعب من قام بالانقلاب من دون أن يکون للشعب أي دور بل وحتى في أحايين کثيرة يهرول الشعب على وقع طبول الانقلابيين کما حدث في العراق بعد إنقلاب 14 تموز 1958، ويتحرك ويتصرف على إيقاعاتها حيث تمت تصفية العائلة الملکية بصورة وحشية يندى لها الجبين، وهذا الحدث کان يتطابق تماما مع مثل شعبي عراقي متداول بصورة ملحوظة هو: "کل من يتزوج أمي فهو أبي"!!
أکثر ما يلفت النظر في الانقلابات التي حدثت أو تحدث في بلدان المنطقة إنها إضافة لمصطلح بإسم الشعب، فإن هناك مصطلحات الامبريالية والاستعمار والصهيونية وما إليها يتم دائما إلحاقها ببيانات الانقلاب وفي أحايين أخرى بقرارات الاعدام وتصفية رفاق الدرب والانقلابات، وهذه الاحداث والتطورات لهذه المجموعات الانقلابية بل وحتى للنظم الانقلابية کان ولازال لها دور بالغ السلبية على الاسلوب والطريقة التي يتم من خلالها تکوين وتوجيه وعي الشعوب، وقد أجاد المفکر الايراني الراحل علي شريعتي القول بهذا الصدد: "لا فرقا بين الاستعمار والاستحمار سوى أن الأول يأتي من الخارج والثاني يأتي من الداخل"، إذ کما إن البلدان الاستعمارية تسعى من أجل إستغفال الشعوب وخداعها والتمويه عليها من أجل تحقيق أهدافها وغاياتها، فإن النظم الانقلابية ومن لف لفها، تسعى بنفس الاتجاه.
وأجد نفسي مضطرا للعودة الى الاوضاع المأساوية في السودان لکنني أضيف لها أيضا الاوضاع في "اليمن" غير السعيد بالمرة، وسوريا التي عادت "جذلى" للحضن العربي، ففي هذه البلدان نجد الشعوب أشبه ما تکون بالمنقسمة على نفسها والمتوزعة على هذا وذاك من دون أن يکون هناك ما يدل على موقف أساسي يعبر عنها.
في مقالي"عندما تتناطح الثيران"، بخصوص الاوضاع المأسفة جدا في السودان لفتت النظر الى أن "ما يجري مواجهة بين الثيران وليس بين بني البشر، فالثور إذا ماهاج لا يعرف شيئا من لغة وکلام البشر، ولاشئ يمکن يردعه إلا القوة، القوة في الردع وکبح جماحه والسيطرة عليه أو حتى في قتله"، ويبدو إن البيت الابيض قد إنتبه الى هذه الحقيقة بإعلانه يوم الخميس الماضي من إن الولايات المتحدة ستفرض عقوبات اقتصادية جديدة وقيودا على التأشيرات "بحق الأطراف التي تمارس العنف" في السودان!
مسك ختام هذه المقالة أجدها مناسبة جدا في حکاية من الموروث الشعبي، حيث يحکى بأنه کان هناك رجل يملك حمارا يرهقه في العمل کثيرا، لکنه يعطيه يوميا ثلاثة وجبات من الشعير، بعد مدة يفکر هذا الرجل ويقول في سره؛ لماذا لا أعطيه وجبتين فقط وأحرمه من وجبة، ويقوم بذلك ولکنه يجد إن الحمار يعمل کالسابق دونما أي فرق!
وبعد مرور فترة يقوم هذا الرجل بقطع وجبة أخرى عنه لکنه يقوم بتبديل الشعير بالتبن، غير إن الحمار يظل يعمل کما کان سابقا.
بعد فترة أخرى، فکر الرجل بأن لا يعطي الحمار أية وجبة وإنما يترکه ليرعى بذاته، بيد إن الحمار ظل يعمل کسابق عهده. وبعد مرور مدة ظهر الحزن والکرب على هذا الرجل فسألوه: لماذا حزنك هذا؟ فأجاب: والله إنني أحزن لکل ذلك الشعير الذي أعطيته لهذا الحمار!!!