لا يبدو أن هناك ضوء يلوح في نهاية نفق الأزمة السودانية حتى الآن، بل قد يكون العكس تماماً هو ما يحدث على أرض الواقع، ولاسيما في ظل ظهور بعض المؤشرات التي تصب باتجاه الإستعداد لتصعيد ممتد زمنياً، حيث دعت وزارة الدفاع السودانية جنود الإحتياط بل والمتقاعدين إلى التوجه لأقرب قواعد عسكرية وتسجيل أسمائهم.
هناك غموض في إدارة المشهد السوداني ميدانياً، فقيادة الجيش دعت في البداية كل المتقاعدين وكل الرجال القادرين على حمل السلاح للاستعداد للدفاع عن أنفسهم، وعادت واستدركت أن الدعوة قاصرة على الجنود السابقين الذين دعتهم للتوجه إلى القواعد العسكرية الأقرب من دون توضيح ما إذا كانت الدعوة إلزامية أم تطوعية. وبغض النظر عن هذا الغموض فإن "الرسالة" في هذا البيان اللافت تكمن في أحد أمرين أو كلاهما معاً إما إستعداد قيادة الجيش السوداني لخوض صراع ممتد زمنياً، مع إحتمالية الاستعداد لتوسع محتمل في نطاق القتال ومستوى الصراع عقب انتهاء الهدنة، أو أن قيادة الجيش بدأت تستشعر عدم قدرة الجيش بقوامه البشري الحالي على الإنتشار جغرافياً وحسم الصراع عسكرياً ما يستوجب تعزيز القوة البشرية ودعمها بقوات إحتياط وحتى متقاعدين وربما "كل من يستطيع حمل السلاح"، وهذه ـ لو صحت ـ ستكون إشارة مهمة للغاية بشأن إتجاهات الصراع في المدى المنظور.
الأمر الايجابي أن هناك نوع من الإلتزام النسبي بالهدنة التي عقدت برعاية سعودية ـ أمريكية، حيث توقف القتال للسماح بوصول المساعدات الإنسانية للمتأثرين بالصراع الذي اندلع منذ أكثر من شهر، وتسبب في أزمة إنسانية وعمليات نزوح ولجوء واسعة النطاق، حيث غادر أكثر من مليون ونصف منازلهم نزوحاً للداخل، أو لجوءاً إلى دول الجوار، بينما يحتاج نحو 25 مليون سوداني إلى مساعدات إنسانية بحسب التقارير الدولية.
المعضلة في الأزمة السودانية أن هناك رفض متبادل بين الجنرالين لبدء محادثات سياسية، والاختراق الوحيد الذي نجحت فيه الجهود السعودية والأمريكية هو إتفاق الهدنة لأسباب انسانية، لمدة أسبوع، وبالتالي لا يوجد إتفاق نهائي لوقف إطلاق النار، ناهيك عن إطلاق محادثات سلام.
المعضلة التي يراها الكثير من المراقبين تكمن في أن قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان قد لا يقبل الجلوس على مائدة مفاوضات مع حميدتي الذي بات بحسب الوصف الرسمي للجيش "متمرداً"، حيث تم عزله من منصبه كنائب للبرهان، وبالتالي فإن التوصل إلى توافقات تنهي هذا الصراع يحتاج إلى وقت وطاقات تفاوضية كبيرة، حيث يصعب إنهاء هذه الأزمة وفق معادلة صفرية، فلا البرهان سيقبل عودة حميدتي شريكاً في الحكم، ولا الأخير سيقبل الازاحة من السلطة بهذه الطريقة، لاسيما أن كلاهما يدرك تماماً أن تمكن أحدهما من السلطة يعني إعتقال الآخر والمضي في إجراءات عقابية قاسية.
وبالتالي يبدو من الواضح أن طرفي الأزمة السودانية يراهنان ـ حتى الآن على الأقل ـ على نتائج الوضع الميداني عسكرياً، حيث يسعى الجيش إلى حسم الصراع لمصلحته، بينما تراهن قوات "الدعم السريع" على سيطرتها على مناطق ونقاط مركزية تضمن إستنزاف قدرات الجيش واستمرار القتال إلى مالانهاية!
إحدى أهم معضلات الأزمة السودانية أن الحلول التي يرتضيها الطرفان وكذلك معظم الأطراف الخارجية تتمحور حول سيطرة أحدهما على الحكم، وهذا أمر يصعب تحقيقه في ظل الواقع الميداني الراهن، الذي يصعب الحكم على تراجعه أو إنحسار القتال فيه لأن الطرفين يستغلان الهدنة في إعادة ترتيب الأوراق ومراجعة المواقف وحشد الدعم داخلياً وخارجياً.
قراءة الشواهد تقول إن قدرة الجيش السوداني على الحفاظ على تماسكه في صراع أهلي ممتد قد تبدو أقل من قوات "الدعم السريع"، التي اعتادت التواجد في ظروف صعبة وتعمل وفق قواعد وفلسفة مختلفة عن القواعد النظامية التي تدار بها المؤسسات العسكرية، وبالتالي لديها من القدرة ما يؤهلها للصمود في صراع أهلي لفترة طويلة، وقد يتعزز موقفها في حال إنضمام ميلشيات قبائلية أو جماعات مسلحة أخرى إلى صفوفها.
بشكل عام، يبدو الوقت في غير صالح الجيش السوداني، الذي يتعين عليه حسم الصراع في وقت قصير تفادياً لإنهاك القوات وتراجع الروح المعنوية وصعوبات الحفاظ على القدرات القتالية في ظروف حروب المدن، فضلاً عن إحتمالية قلة مخزونات الأسلحة والعتاد ورواتب الجنود في مقابل توافر السلاح والمال لدى قوات "الدعم السريع"، المهيأة تماماً لخوض مثل هذه الصراعات الميدانية، ناهيك عن قدرتها على حشد الحلفاء وتوفير الدعم الخارجي من السلاح والأموال عبر الحدود مع دول الجوار السوداني.
من الصعب بناء سيناريوهات مٌرجحة بشأن مسارات الأزمة السودانية في ضوء الشواهد الراهنة، ولكن من المؤكد أن تمركز الصراع في العاصمة الخرطوم يمثل كارثة بحد ذاته، لأنه يدفع الأمور سريعاً باتجاه إنهيار فعلي للدولة في ظل الدمار الذي لحق برموزها المؤسسية بعد إحتراق البنك المركزي والكثير من المؤسسات الحكومية والمستشفيات وانهيار المرافق العامة وغير ذلك، والأخطر من هذا كله هو أن المجتمع الدولي بات يتجاهل الأزمة السودانية بشكل واضح، حيث تحولت الأزمة ـ بعد إجلاء الرعايا الأجانب من البلاد ـ إلى واحدة من أزمات منسية عديدة تندرج على الأجندة الدولية، وهذا ماسبق أن حذرنا منه في بدايات الأزمة، ما يعني أن الأمر قد يزداد سوءاً في حال توقف الجهود السعودية ـ الأميركية عن مواصلة دورها في البحث عن مخارج لهذه الأزمة المستعصية، لاسيما أن الجهود الأفريقية قد توقف تماماً بعد فشل محاولات الوساطة التي جرت في بدايات الصراع.
مؤشراتٌ لافتة في الأزمة السودانية
مواضيع ذات صلة