أحيانا أصاب بالعجب واسأل ما الذي يجعل رجال السياسة ورعاتها وكثير منهم العلمانيون والمدنيون يتعكزون على الفكرة الدينية لترويج وترسيخ أهدافهم وتحقيق مراميهم؛ وهل ان المفاهيم والمدارس العلمانية والأفكار التنويرية والعقلانية والمدنية المتحضرة عاجزة الى حد ما عن إقناع الشعوب لضمّها الى قناعات علمية وتجريبية بدلا من ان يتعكزوا على العقائد الدينية؟؟
قبل اكثر من قرن اتكأت الحركة الصهيونية كفكرة دينية رجعية قائمة على التلمود ومنبعثة اصلا من مفاهيم التوراة رفع لواءَها عتاةُ العلمانية من عقول يهودية سعت ونجحت الى حد كبير في تشييد كيان اسرائيلي تبلور يوما بعد يوم حتى أضحى دولة ناهضة ثبتت أركانها وسط مجموعة دول عربية منها الكبيرة العريقة بإرثها ومكانتها ومنها الصغيرة المقسمة منذ مئة عام وفق معاهدة سايكس بيكو وبقي هذا الكيان يمتد ويبني ويستوطن المهاجرين وتزداد أعداد وافديه ومازال يزحف ليبلع أراضيَ اخرى فلسطينية من خلال استمرار بناء المستوطنات دون ان يردعه رادع حقيقي وفعّال سواء من قبل سلطاتنا العربية أو من قبل المنظمات الدولية او الدول الكبرى ولا حتى الرأي العام العالمي.
تتراءى لي بوضوح ان الصهيونية والأسلمة معاً تتكآن على الدين وتغازلانه ولا ارى فرقا بينهما سوى ان الأسلمة كانت اكثر بشاعة ومزقت شعوبها المسلمة نفيا وتهجيرا وحروبا متواصلة باسم العقيدة السمحاء حتى تحولت الى عقيدة منفرة شوهاء ودمرّت بني جلدتها بينما الصهيونية - بدهائها وألاعيبها وتضامن الكثير من دول العالم معها - لملمت شتات أهليها على حساب تفريق الطرف الاخر وهو الشعب الفلسطيني المعذب اللاجئ على الارض باستثناء فئة عرب / 1948 من خلال انتزاع عروبتهم ودمجهم مع المجتمع الاسرائيلي في عملية تذويب وصهر الهوية حتى نسي المواطن منهم محتده وأصوله وأهليه.
الاسلمة الطاغية عندنا اليوم هي الاخرى تعكزت على الدين للانتشار تماما كما الصهيونية فهما صنيعة الدين لما له من جاذبية وسحر سرعان ما يدخل قلوب وعقول الشعوب واستغلال حالة الإيمان لتدخل الايدولوجيا التي يسخرها العلمانيون اليهود لإنجاح مخططاتهم الصهيونية مثلما يسخّر الإسلاميون الان لإشاعة الاسلمة وإدخالها في ممرات وأقبية السياسة بشعارات رنانة يصفق لها الجماهير بعفويتهم ما دامت تدغدغ مشاعرهم العقائدية مثل "الإسلام هو الحلّ" باعتباره صالحا لكل زمان ومكان وضرورة طرح الحكم الإسلامي وترسيخ الإسلام كنظام سياسي يسمونه صالحا لكل زمان ومكان. ولا ادري كيف يكون صالحا في ألفيتنا الثالثة هذه بكل قفزاتها العولمية ومناحيها المدنية وأنظمتها الديمقراطية وتقنيات الميديا الجديدة في نظمها المتعددة الحديثة وأعجب كيف تريد هذه التطورات المذهلة عقلاً أثنيا ضيق الافق ليقودها ويعايشها ويماشيها في تطورها السريع بجريانه.
فكلنا نعتز بالاسلام وإرثه مثلما نعتزّ بالرسالات السماوية الاخرى ونعتز ايضا بحضاراتنا الاولى ما قبل الاسلام لكننا نأنف من ان نستعمل آنية فخارية صنعها أجدادنا ونضمّها في مطابخ بيوتنا وننهل منها ما يدخل جوفنا رغم اعتزازنا بها وننشد صيانتها وحفظها بل ولا نفرط فيها أبدا اذ لا تقدر بثمن مهما كان باهضا ونعمل المستحيل على صونها في المتحف ونفاخر بها الأمم والشعوب غير اننا قد نمرض ونشقى حينما تكون ضمن الأواني التي نستخدمها في بيوتنا ونعجب كيف لأمةٍ تعيش عصر الألفية الثالثة وفي عصر العولمة والانفجار في الاختراعات والمكتشفات ان تعيش عقليات القرن الثاني الهجري وما بعده وننصاع انصياعا أعمى لما تَـفَـقّـه به الأولون مع إدراكنا ان هؤلاء الأولين كانوا وحيدي عصرهم في توقّد الفكر والطروحات العقلية لكنهم اليوم مجرد عقول كان لها دورها في زمانها لكنها فقدت بريقها واختلّ مكانها الان في مقعد النهضة الشاملة في بنائها الفوقي والتحتي؛ وقد آن الأوان ان نبتكر منهجا عقليا آخر لا يسرف في سرد ما قاله الأولون ويقع تحت إسار الإذلال والانصياع والذيلية للعقول السالفة ويتحتم علينا الان ان نبصر بعيون معاصرة الى العالم وما ينبثق منه من ابتكارات أنتجها العقل المعاصر ونتماشى مع المحدث النافع والجديد المثمر دون إحداث اية قطيعة او انفصال مع الإرث العقلي السالف لكننا لا ننجرّ وراءه إتباعا أعمى حينما يصنف أهل الكتاب مثلا بانهم كافرون – على سبيل المثال – او هذه الفئة من الناس توضع في خانة الوثنية والشرك، والفئة الأخرى تصنف في خانة الموحّدين واعتبار الملأ بان هذا الفكر وضعيّ والفكر الآخر سماوي، فالعالم بملياراته التي تزيد نسماته على السبعة مليء بالعقائد المختلفة والأصناف العقلية يصعب عدّها وحصرها ومن السخف ان ننشغل بتصنيفها على انها كافرة ومنحرفة وسليمة ومؤمنة.
فليفهم المسلمون - ونحن منهم ـ انهم جزء صغير من الناس وليسوا كل الناس والله من جعلهم شعوبا وقبائل وأصناف شتى ليتعارفوا ويعمّروا ويؤثثوا المعمورة بناءً فوقيا وتحتيا لا أن يتنازعوا ويعادي بعضهم بعضا وهو ربّ العالمين الذين يكون المسلمون جزءا منهم؛ فهم ليس الكل في هذه الأرض التي مهّدها الله لنا ولغيرنا من أصناف البشر والأعراق والمنحى العقائدي. فلا طريق لنا سوى طريق الالتقاء مع الشعوب الأخرى ومدّ اليد لمصافحة السواعد القوية الناهضة والتعلّم منها كيف تنجز إبداعاتها بمساعدة العقل.
وتبقى العقيدة الإسلامية زخما روحيا وحافزا لنا للانتقال الى مرفأ الحداثة واعتماد نظم سياسية جديدة راقية تحترم الإنسان ورغباته لتطوير بلده وفق أحدث النظم الديمقراطية فاتحين صدورنا وعقولنا لكل ما هو جديد ونافع لنا بعيدا عن إدخال العقائد عنوةً في أقبية السياسة وإدارة الحكم وتسيير الأمور من خلالها لأنها تقصر وتعجز عن ان تتكيف في مناخٍ لا يناسبها إطلاقا وإنما مكمنها في الصدور والقلوب وارتباطها حصرا بالخالق ومخلوقه وليس مكانها في قاعات البرلمان وهياكل الوزارات وأساليب التعليم المدنية لا الدينية.
فرجال السياسة ذوو المران والخبرة والدربة أجدر بالحكم القائم على الصواب والنجاح، اما رجال الدين الناصعون الشرفاء فهم أحفظ للعقيدة وصونها مما علق بها من دبق المطامع نحو الجاه والمال والحظوة التي لوثتها الايدي الطامعة (تجّار سياسة وتجّار دين) ممن أوهموا الناس بفكرة الاسلمة عندنا وخدعوا عقول الملأ بهذا البريق الذي يعمي الأبصار لا أن يهديه بنورهِ سواء السبيل.
فيا أيها العلمانيون والمدنيون ودعاة التنظير السياسي المتقدم اتركوا للمساجد الإسلامية وللكنائس المسيحية وللكنيس اليهودي رعاتها ولا تركّزوا أنظاركم على المعابد أيّا كان منبتها ومحتدها ومولدها؛ وانتم ايها المحترفون والمشتغلون بالعقائد الدينية مهما كان لونها وسمتها تنحّوا جانبا عن أقبية السياسة ودروبها الوعرة والسالكة لئلا تفسد مثلكم العليا وقيمكم السامية النجيبة، وكم ستكون حياتنا زاهية لو اتّبعتم هذا المسلك المليء رخاءً وسعادةً وحرية عندما تتجوّلون به وتنتشي صدوركم أنفاساً عذبة وتمرحون بمشواره أمنا وسلاما ومحبة دائمة لكل عابر وقاصد.