يتساءل المراقبون لماذا انتظرت بكين عاما كاملا قبل أن تطرح مؤخرا خطتها لإنهاء الحرب في أوكرانيا؟ هل مثلا كانت تنتظر أن يحسم حلفاؤها الروس الأمر سريعا؟ أم أنها انتظرت حتى باتت الحرب تؤثر عليها اقتصاديا وتجاريا؟ ام إنها انتظرت إلى حين تأزم الوضع تماما كي تضطر الأطراف المتورطة في الحرب لقبول مساعيها فلا تفشل، وبالتالي يدين لها العالم بإنقاذ البشرية من حرب عالمية ثالثة؟ لا أحد يعلم الإجابة إلا القيادة الصينية نفسها.
فعلى الرغم من أن الرئيس الفرنسي ماكرون وزعماء أوروبيين آخرين شجعوا الصين العام الماضي على التوسط في النزاع باعتبارها دولة كبرى تحظى بعلاقات وثيقة مع طرفيه، إلا أن ذلك لم يقابل وقتها بحماس من قبل العملاق الصيني الذي انتظر حتى الأسبوع قبل الماضي ليطرح وزير خارجيته «وانغ يي» خلال زيارته لأوروبا خطة سلام من 12 نقطة.
لكن يبدو أن هذه الخطة، التي حاولت أن تمنح طرفي النزاع بعض المكاسب كيلا يتم رفضها، في طريقها إلى الفشل لأسباب كثيرة؛ أولها إصرار أوكرانيا على مواصلة الحرب حتى استرداد آخر بوصة من أراضيها المحتلة، ناهيك عن أنها ترى في الصين دولة غير محايدة، ولعل ما زاد الأمر سوءا أن وزير الخارجية الصيني حمل خطة السلام إلى موسكو ولم يكلف نفسه بزيارة كييف لعرضها على قادتها. وثانيها مواصلة واشنطن تقديم دعمها العسكري لأوكرانيا دون تردد واستحالة أن تسمح الإدارة الأمريكية للصين تحقيق نصر دبلوماسي يبرزها كقوة سلام عالمية، خصوصا مع اتهام وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن للصين بالقيام بدور مزدوج يتمثل في طرح مبادة سلام من جهة والاستعداد لتزويد الروس بالسلاح من جهة أخرى. وثالثها تأكيدات موسكو بأنها لا تقاتل الأوكرانيين، وإنما تقاتل الغرب بأكمله حماية لحدودها ووجودها.
والحقيقة أن الصين نفسها لم تكن واثقة من نجاح خطتها بدليل ما قالته صحيفتها الناطقة بالإنجليزية والمملوكة للحزب الحاكم «غلوبال تايمز» من أن إنهاء الحرب يعتمد أولا وأخيرا على مدى استعداد طرفيها الأوكراني والروسي للجنوح إلى السلم، وأن أجواء الاستعداد لتفاوضهما على حل سلمي غير ناضجة ولا تزال بعيدة، ملقية السبب على تدخلات واشنطن ودول حلف الناتو.
والحقيقة الأخرى هي أن الخطة الصينية من وجهة نظر العديد من المراقبين تنقصها الوضوح ويكتنفها التناقض، الأمر الذي سمح لكل طرف من أطراف النزاع أن يأخذ منها ما يناسبه فقط. فقد طابت للأوكرانيين مثلا الفقرة التي تتحدث عن وجوب حماية سيادة واستقلال وسلامة أراضي جميع الدول وفقا للقوانين الدولية ومبادئ الأمم المتحدة. لكن المفارقة هنا أن بكين وهي تقر هذا المبدأ قامت في وقت متزامن مع طرح خطتها السلمية العودة إلى استخدام الأسماء الصينية لمدن ومناطق خسرتها لصالح روسيا خلال القرن 19 وأوائل القرن 20، وكأنها تشكك في سيادة روسيا على كامل ترابها. وحول هذا كتب أحد معلقيها في 20 فبراير ما مفاده أن الشعب الصيني فقد نحو مليوني كلم مربع من الأراضي تقع الآن في الشرق الروسي وبعض دول آسيا الوسطى لصالح الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفيتي بموجب معاهدات غير متكافئة.
أما الروس فقد سعدوا بعدم تطرق الخطة الصينية صراحة إلى ضرورة انسحابهم من شبه جزيرة القرم أو من منطقة دونباس وغيرها من تلك التي يطالب الرئيس الأوكراني زيلينسكي روسيا بالجلاء عنها كشرط لدخوله في مفاوضات سلام معها، وسعدوا بتشددها على أخذ المخاوف الأمنية لكل الدول على محمل الجد ووقف العقوبات الأحادية. ولعل ما أسعد الروس أكثر أن الخطة الصينية ألقت، في فقرات عديدة، باللائمة لكل ما جرى ويجري في أوكرانيا على الولايات المتحدة وحلف الناتو مع انتقاد لاذع لتسببهما في الصراعات وتصعيد الموقف وفرض العقوبات الاقتصادية وتوسعة الكتل العسكرية بحجة ضمان الأمن الإقليمي. والمعروف أن شيئا من هذا القبيل ورد أيضا في كلمة السفير الصيني لدى الأمم المتحدة في 23 فبراير والتي قال فيها أن على الدول المعنية (يقصد الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي) أن تتوقف عن إساءة استخدام العقوبات الأحادية و«الولاية القضائية طويلة المدى»، وأن تفعل شيئا مفيدا لتخفيف التوترات بدلا من تصعيدها.
والجدير بالذكر أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت مؤخرا قرارا غير ملزم يدعو روسيا لسحب قواتها من أوكرانيا، وقد حصل القرار على موافقة 143 دولة، بينما صوتت ضده روسيا وبيلا روسيا ونيكاراغوا وسوريا وكوريا الشمالية وأريتريا ومالي. أما الصين، ومعها الهند وفنزويلا وإيران فقد امتنعت عن التصويت. وقد فسر البعض هذا الموقف الصيني آنذاك بأنه موقف محايد تتطلبه خطة صينية متوقعة لإنهاء الحرب، وأنه أيضا بمثابة تفنيد لمزاعم الأمريكيين بأنها تؤجج الصراع من خلال إرسال الأسلحة إلى روسيا. هذه المزاعم التي سخر منها البعض بقوله أن بكين أذكى من أن تورط نفسها في حرب مجهولة النتائج لا علاقة لها بها، فيقوم الغرب بفرض عقوبات مشددة عليها تحرمها من تجارتها مع أوروبا والولايات المتحدة التي تبلغ قيمتها ترليون دولار.