تفكيك خطاب سوء الفهم هو ما يطمح إليه المثقّف التنويري ماجد الغرباوي في كتابه الموسوم "التسامح ومنابع اللاتسامح ـ فرص التعايش بين الأديان والثقافات"، صادراً أخيراً في بغداد عن معهد الأبحاث والتنمية الحضاريّة بالاشتراك مع "العارف للمطبوعات". وكان قد صدر سابقاً في طبعته الأولى عن "مركز دراسات فلسفة الدين ـ بغداد" ضمن سلسلة "ثقافة التسامح". وفيه يتعمّق الكاتب في مفهوم التسامح مقِرّاً بأنّه يفترض يداً أعلى من يد، لكنّه في آن مقيّد بالفهم المعاصر لناحية قبول الآخر كما هو، على ما هو، من يكون وأينما يكون، وعدم الانقطاع في الحوار من مدخل "التكامل" وليس من مدخل "الهداية"، التي تفترض أنّ الذي على الضفّة الثانية هو كافر وليس إذا اهتدى فله وإذا لم يخلع عنه الضلال فليس هو على ما لم يخلع، وحسابه هو في العالم الآخر كما جوهر الكتاب الكريم، بل يجب أن يستعدّ لحرب ضروس تسيل فيها النفوس.
يطلّ الكاتب على مفهوم المواطنة الذي يليق بالوطن الحقّ، حيث الناس كأسنان المشط في الحقوق والواجبات بغضّ النظر عن أي هويّة ثانية بالوراثة أو بالاختيار، أي على عكس القبيلة، مثالاً لا حصراً، التي لا تقيم وزناً للكفاءة، وتُقدّم اعتبارات لا سلطان فيها لكي يتصدّر المتصدّرون، ومنها اللون أو العرق أو الدم أو النسب. ويقف من حديث "الفرقة الناجية" موقفاً، فهو لا يراه إلا موضوعاً، ولا سويّة فيه، ويؤسّس لاحتراب ظالم لانهائي، وهو "الحديث" الذي لم يرد لا في خزنة صحيح الإمام البخاري ولا في خزنة صحيح الإمام مسلم، ويتطيّر منه العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله الذي يقول في معرض التطرّق إليه: "لم يثبت عندنا صحّة هذا الحديث من جهة السند، فلا مجال للاعتماد عليه، كما أنّ دلالته قد تخلق بعض المشكلات المعقّدة، باعتبار كلّ فرقة ذاتها هي الإسلام وغيرها الكفر، أو أنّها الهدى فيما الآخرون هم الضلال".
زبدة كتاب "التسامح ومنابع اللاتسامح" هي نبذ العنف بكلّ أشكاله، وأخصّه الدموي. والحقّ أن الكاتب الغرباوي راسخ في ثقافته الإسلاميّة التسامحيّة حتى أبعد آفاقها، ولا يخشى معها ومع الإسلام الحضاري ومع الله تعالى لومة لائم، ويقارب موضوعه بجلاء من أكثر من ناحية، ولا تعوزه كفاءة الاستشهادات من الكتاب الكريم والسنّة النبوية الشريفة والصحابة رضي الله عنهم والتاريخ والوقائع ومنطق العقل المعاصر. ولكن تبقى ركائز: هل النزاع هو حول النصّ المقدّس أم في ما يمكن أن توضع اليد عليه؟، هل هو في التفسير والتأويل أم في تضادّ المصالح؟، ما هو دور الاحتلال في تأجيج الفتن وانقلاب الحال إلى أسوأ منقلَب؟، وأسئلة غيرها يكون الجهد معها أيضاً في المحلّ العالي.
جوهر الردّ على إسلام يأكل كبد إسلام حاضر يمكن العثور عليه بيُسر في القرآن الكريم، إلاّ أنّ الذين يكرهون الآخر ولا يقرّون وجوداً له لا طائفيّاً ولا مذهبيّاً يرون لمسافة محدودة أنّ "آية القتال"، ولا يجوز تسميتها "بآية الجهاد" باعتبار أنّ "الجهاد" أوسع وأشمل وأبعد من "القتال"، يرون أنّ آية القتال موافقة لكلّ زمان ومكان، والصورة هي أنّ القرآن الكريم أصله في الرحمة والعفو والغفران والتسامح والمحبّة والإعتراف بالآخر، وأكثر ما يتجلّى هذا الأصل في السور المكيّة التي استغرق نزولها ثلاث عشرة سنة، فيما العابر هو ما استجدّ حيث أغلظ الشرك للإيمان الناشىء واعتزم أن يستأصل شأفته. وما الواقع الممزّق الذي تُزهَق فيه الأرواح في معظم العرب والمسلمين ومنهم العراقيين إلاّ لأنّ الفهم المعاكس هو السائد، ولكي تعود المياه إلى جداولها ويعمّ الخير لا بدّ من تفكيك خطاب الفهم المعاكس وإثبات أنّه متهافت، وهذا بالضبط ما يطمح إليه ماجد الغرباوي في كتابه "التسامح ومنابع اللاتسامح ـ فرص التعايش بين الأديان والثقافات".
**
الكاتب الغرباوي هو عراقي الهويّة والهوى، وعى على محيط كلّه في المظلوميّة حيث الفرد تنهال عليه بكلّ القسوة هراوات السلطات المتعاقبة بالإفراط والتفريط، خصوصاً بالأمن، حتى وقع العراق كلّه أخيراً، بشراً وشجراً وحجراً، فريسةً تُمزِّقُ بها أنيابٌ ومخالب، ولا شفقة ولا رحمة. نظرَ الغرباوي بهذه المأساة ولاحظ أنّ العنف لا يُجبه بالردع الحكيم وإنما يُجبَه بعنف همجي من الطينة ذاتها، أي لا بصر ولا بصيرة بل هو وحشٌ كاسر لا يُبقي ولا يُذر.
هكذا الغرباوي في كتابه الثاني "تحديات العنف" الذي فيه من جهات العنف حركات متطرّفة، فيما تدفع الأذى عن ذاتها من عنف مظلم واقع عليها لا تقيم حرمة لطفل، لإمرأة، لعجوز. حركاتُ إعصارٍ ينفجر في الأحياء السكنيّة، في الأسواق العامّة، في دور الحضانة، في دور العبادة، فيما لو عقلتْ كان أولى بها أن تدّخر غضبها لمنازلة جلودة، واعية، مدركة، مع العدوّ المستبدّ، الغازي، المجرم، لا مع المدنيّين الأبرياء، أسوةً بسيرة الرسول الصادق الأمين في منازلاته وصراعاته مع "قريش"، وكيف نظرَ في هذه المنازلات والصراعات وكيف انتهى إليه الفوز حتماً بما تقدّم فيه بأخلاقه وعظيم بصره وبصيرته.
القوّة عند ماجد الغرباوي في هذا الكتاب أيضاً هي في غير العنف، بما القوّة هي مجال للاقتصاد والسياسة والثقافة والفنّ والعمران. والقرآن الكريم في عنوان رئيسي يحضّ على هذه القوّة الحضاريّة، الخلاّقة، ولا يحضّ على العنف العدواني الذي هو اتجاه واحد، محدود، ولا تُقرّ المبادأة ظلماً وعدواناً، بل بمبادأة سمحاء، وفيها القاعدة وفيها الاستثناء. والقاعدة هي آيات القربى والمودّة، فيما الاستثناء "آية السيف"، خصوصاً ما دام القرآن المبين هو مصدر التشريع الأوّل. وعلى رغم ذلك فإنّ للسيف ضوابط، حدوداً، قوانين، وإلاّ صار قتلاً وفساداً وإفساداً في الأرض.
جوهر كتاب "تحديات العنف" هو الردّ على متمسّكين بالدين إنّما على نحو مبتور، مُجتزأ. يستسهلون مبادأة أبناء جلدتهم ودينهم أو مذهبهم بالإجرام، يستسهلون التكفير وليس من ذلك الإسلام. وهو كتاب بمنطق سلفه يحاول أن يردّ على منطق لا منطق جديّاً فيه، يردّ مهتدياً بمفكّرين وأئمّة كبار منهم مثالاً لا حصراً: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، عبد الرحمن الكواكبي، والسيّد محمّد حسين فضل الله، حيث العقل كثير.
**
ونأمل ألاّ تكون صرخات الكاتب في الكتابين معاً: "التسامح ومنابع اللاتسامح" و"تحديات العنف" هي في أرض مأهولة كلّها بالرمل.