: آخر تحديث

ترمب والهجرة: ازدواجية الخطاب والمعايير

3
3
3

‏في خطاب ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ أيام، شن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب هجومًا حادًا على المنظمة الدولية، متهمًا إياها بـ"تمويل غزو" للدول الغربية من خلال دعم الهجرة غير الشرعية، واصفًا تدفق المهاجرين إلى أوروبا بأنه "غزو لم يشهده العالم من قبل" (خطاب الجمعية العامة، 24 سبتمبر 2025). لكن المفارقة الصارخة تظهر جليًا عند مقارنة هذا الموقف بتصريحاته السابقة التي دعا فيها إلى تهجير سكان غزة إلى دول أخرى، مع اقتراح تحويل القطاع إلى "وجهة سياحية" لصالح إسرائيل والولايات المتحدة (مقابلة مع فوكس نيوز، 5 مارس 2024). هذا التناقض يكشف عن ازدواجية في المعايير تتجاوز الخطاب السياسي إلى استراتيجية مدروسة تخدم أهدافًا سياسية داخلية وخارجية.

‏§ الازدواجية كاستراتيجية سياسية
‏هذا التناقض ليس مجرد زلة لسان، بل يعكس نهجًا سياسيًا يستخدم الهجرة كأداة لتحقيق أهداف متباينة. داخليًا، تُصوَّر الهجرة غير الشرعية إلى الغرب كتهديد وجودي لتعزيز خطاب "حماية الحدود"، وهو ما يستهدف تعبئة القاعدة الانتخابية لترمب التي تُعلى من قيم الهوية الوطنية. في المقابل، يُقدَّم تهجير سكان غزة – وهو فعل يُصنف، وفق المادتين 7 و 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، كجريمة ضد الإنسانية وجريمة حرب – كمقترح سياسي يتماشى مع مصالح حليف استراتيجي مثل إسرائيل. هذه الازدواجية تكشف عن توظيف الهجرة لخدمة النفوذ السياسي والجيوسياسي، سواء لتعزيز الشعبوية الداخلية أو دعم أجندات خارجية.

‏§ ما وراء الهجوم على الأمم المتحدة
‏اتهام الأمم المتحدة بـ"تمويل الغزو" ليس حدثًا معزولًا، بل جزء من نمط متكرر لتقويض شرعية المؤسسات متعددة الأطراف. خلال رئاسته (2017-2021) ، قلّص ترمب تمويل الولايات المتحدة للأمم المتحدة ووكالاتها، مثل منظمة الصحة العالمية (تقرير الأمم المتحدة، 2020). هذا الهجوم يهدف إلى إضعاف أي سلطة دولية قد تحد من حرية التصرف الأمريكية، مع تحويل الأمم المتحدة إلى كبش فداء يُحمَّل مسؤولية تحديات السياسات الداخلية، مثل الهجرة. وقد أثار هذا الخطاب انتقادات دولية، حيث عبرت دول الاتحاد الأوروبي ومنظمات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش عن قلقها إزاء تقويض التعاون الدولي (تقرير هيومن رايتس ووتش، أكتوبر 2024).

‏§ القانون الدولي... الغائب الحاضر
‏في خضم هذا الخطاب، يبرز غياب الالتزام بالقانون الدولي بشكل لافت. فالاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، واتفاقية اللاجئين لعام 1951، التي تحظر الترحيل القسري، والمعايير الدولية التي تجرم تهجير السكان، يتم تجاوزها دون اكتراث. هذا التجاهل يعكس سيادة منطق "القوة" على "القانون"، خاصة عندما تتصارع المصالح السياسية. فبينما يُستخدم القانون الدولي كمرجعية لانتقاد الهجرة غير الشرعية إلى الغرب، يتم تجاهله عندما يتعلق الأمر بقضايا مثل تهجير سكان غزة، مما يكشف عن انتقائية في تطبيق المعايير.

‏§ ختامًا: نحو عدالة دولية فاعلة
‏المسألة ليست في إدراك ترمب أو غيره لتناقضات خطابه، فالتناقض قد يكون مقصودًا. بل السؤال الأعمق: إلى أي مدى يمكن للضمير العالمي أن يتحمل هذه الازدواجية في تطبيق المعايير؟
‏الرد لا يكفي أن يكون استنكارًا أخلاقيًا، بل يتطلب تعزيز آليات الرقابة الدولية، مثل دعم المحكمة الجنائية الدولية ومنظمات حقوق الإنسان المستقلة، وتمكين صوت الشعوب المهمشة عبر منصات الإعلام الحر. يجب على المجتمع الدولي دعم مبادرات مثل منظمة العفو الدولية أو مراكز البحث المستقلة لفضح هذه التناقضات وتعزيز الحوار العالمي حول العدالة. فالصمت اليوم على ازدواجية المعايير هو تفويض لانتهاك القانون غدًا.
‏العالم أمام مفترق طرق: إما أن تنتصر قيم العدالة والقانون، أو أن نسلم جميعًا لثقافة الغاب التي لا تعترف إلا بلغة القوة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.