: آخر تحديث

غزة تنتفض على جلاديها

2
2
1

تعيش حركة حماس الإرهابية اليوم مرحلةً هي الأخطر في تاريخها، إذ تتوالى الخسائر المؤلمة في صفوف قياداتها وعناصرها الميدانية، وهو ما تعتبره الحركة أثمن ما لديها وأخطر ما تفقده. فهي ترى أن بقاءها كتنظيم أهم من بقاء القطاع وأهله، ولذلك كلما اشتد الضغط عليها ضحّت بمزيد من المدنيين الأبرياء، معتبرةً أن هؤلاء مجرد أرقام تكتيكية يمكن تعويضها بالتوالد مع الزمن، بينما القيادات نادرة لا تعوّض، ولهذا تُمنَح صفة “الشهيد المرموق”، في حين يُسجَّل سائر الضحايا في خانة الإحصاءات. هذه الذهنية، في اعتقادي، تكشف جوهر الأزمة: مشروع قائم على حماية الرأس لا الجسد، وعلى تقديس الفصيل لا الشعب.

ومن هنا يكتسب المقطع المصوَّر الذي انتشر من قلب غزة أهمية مضاعفة، إذ ظهر فيه القيادي حسام الأسطل، شخصية محلية برزت مؤخرًا معلنةً تأسيس تشكيل مسلّح مناوئ لحماس، ليعلن عن مكافأة مالية على رؤوس عناصر الحركة، قدّرها أولاً بخمسين دولارًا ثم خفّضها إلى خمسةٍ وعشرين،و لم يكن ذلك المشهد مجرد إعلان عابر، بل كان، في اعتقادي، لحظة رمزية لانكسار هيبة حماس، وإيذانًا بولادة بديل محلي يرفع شعار المواجهة من داخل غزة لا من خارجها.

إن ظهور القيادي حسام الأسطل مرسلا هذه الرسائل هي نتاج عن تراكمات الحكم الفاشل الذي مارسته حماس منذ سبعة عشر عامًا؛ فبدل أن يُؤمّن مشروع حكومي تنميةً مستدامة وحمايةً اجتماعية، تركت الحركة القطاع في حالة هشاشة دائمة، فيما كانت المساعدات الخليجية السخية تضطلع بواجب إعادة بناء ما تهدّم من مستشفيات ومبانٍ سكنية ومنشآت تعليمية. أما الحركة الإرهابية فقد انشغلت بحفر الأنفاق وتخزين السلاح واغتيال وقتل الفلسطينيين المعارضين لها ، حتى صار مشروعها الارهابي عبئًا ثقيلًا على الناس.

ثم جاءت مذبحة السابع من أكتوبر لتزيد الطين بلّة؛ ففي ذلك اليوم اندفعت الحركة إلى مغامرة دموية أودت بحياة مئات المدنيين الإسرائيليين، بالإضافة الى خطف عدد اخر من كبار السن والأطفال والنساء، فكان لذلك صدى دولي وأمني عميق، وفتح الباب أمام سياسة انتقامية لا تكلّ ولا تمل.

ولعلّ ما يثير الاستغراب أن يحيى السنوار نفسه صرح في مناسباتٍ سابقة بأن المواجهة القادمة قد "تحرق الأخضر واليابس"، وهو خطاب يعكس ذهنية ترى في التدمير وسيلة نهائية لتأكيد الوجود، حتى لو شمل ذلك حياة الأطفال والنساء. وفي الحقيقة، فإن مثل هذا الخطاب يضع الحركة في زاويةٍ أخلاقية وسياسية يصعب الخروج منها.

ومن رحم هذا المشهد المرعب انطلقت قوى فلسطينية محلية جديدة، أبرزها ما أعلنه حسام الأسطل، وإلى جانبه مجموعات مثل "أبو الشباب"، التي لا تبحث عن شعاراتٍ بعيدة، بل عن استعادة ما تبقّى من الحق العام وإعادة بناء حياة الناس، وهذه التشكيلات، مما أرى، تكتسب شرعيتها من الجرح اليومي للمواطنين، لا من بيئات المنفى والمنافع الخارجية.

وبلاشك فإن الأمور تتجه اليوم نحو صدام داخلي محتدم بين حركةٍ ارهابية فقدت شرعيتها في أعين شريحة واسعة من شعبها، وبين عناصرٍ فلسطينية مناوئة تسعى لإزاحتها وإقامة بديل محلي. ومن المتوقع أن يكون هذا الصدام عنيفًا، لأن ثمن ما حدث، من سياسات استقوت بها حماس الإرهابية على أهالي غزة، وإلى اعمال الانتقام والعنف والذي رموا فيها أهالي غزة وعناصر مؤسساتٍ مدنية ومن كوادر السلطة الفلسطينية من أعالي المباني، ما زال عالقًا في الأذهان، ويحمل معه ذاكرةً من الغضب والظلم تنتظر أن تُؤخذ حقيقتها. ومن هنا، في ظني، أن الانتقام الداخلي الذي قد تُشهِده الساحات في غزة سيكون ذا طابعٍ خاص: ثأرٌ متراكم، لا ينسى الخيانة ولا يغفرها بسهولة، وسيطال رموزًا وأسماءً بعينها، وقد يحمل فاتورةً اجتماعية طويلة الأمد.

غير أن ما يجب التنبيه إليه، وبلا تحفظ، أن الانزلاق نحو ثأرٍ عشوائي غير منظّم سيضاعف الكارثة ولن يُصلح ما أفسده الزمان؛ لذلك فإن المنفذ الوحيد لأمن مجتمعي مستدام يكمن في دفع المساعي إلى محاسبة قانونية نزيهة وشفافة لقيادات وعناصر حماس، وفي بناء آليات عدالة انتقالية تسمح للمجتمع باستعادة ثقته دون أن يُعاد إنتاج العنف، وهو تحدٍ جسيم أمام الجميع.

وفي مقابل هذا الصعود الداخلي، تضغط إسرائيل بكل أدواتها العسكرية والاستخباراتية لملاحقة من خطط ومول وشارك في هجوم أكتوبر، إن كان في داخل غزة أم مختبئًا في العواصم الإقليمية بين القصور أو الشقق الفاخرة، فسيف الانتقام مسلط عليهم ويطاردهم مع أعوانهم ومن ستحل عليه لعناتهم. وفي الوقت نفسه، تتحدث تقارير دولية عن خططٍ لإعادة إعمار قد تصل تكلفتها إلى ثلاثةٍ وخمسين مليار دولار خلال خمس سنوات، ما يوضح أن حجم الكارثة يتجاوز قدرة أي فصيل محلي على معالجتها. وهكذا تتلاقى الضغوط الخارجية مع الغضب الداخلي لتصنع مشهداً خانقًا لحماس، يضيّق عليها الخناق من كل اتجاه.

ومما أرى، أن نهاية حماس لن تكون سريعة ولا رحيمة، بل ستكون عملية طحن بطيئة ومؤلمة تشمل المقاتلين والموالين والمتعاطفين وحتى الصامتين، إذ قرر الناس أن يطهّروا ذاكرتهم من كل أثرٍ لهذه الطغمة. ومع ذلك، في اعتقادي، يكمن التحدّي الأكبر في إطالة الرغبة الشعبية إلى مسارٍ قانونيٍ منظّم، يتجنّب فوضى الانتقام ويؤسّس لعدالةٍ حقيقية تُفضي إلى إصلاحٍ وبناءٍ دون أن تُعيد إنتاج دائرة العنف.

علينا ان ندرك إن شخصية حسام الأسطل ليسا حدثًا عارضًا فحسب، بل مؤشرٌ على ولادة قوى محلية جديدة تُعلن انتهاء عصر الهيبة، وتضع حماس أمام امتحانٍ أخيرٍ قد يقرّر مصيرها. وإذا كانت الأمم تُقاس بقدرة مؤسساتها على حماية مواطنيها، فغزة اليوم على مفترق طرق....إما محاسبة عادلة تُعيد الحقوق، أو فوضى تُضاعف الدمار.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.