: آخر تحديث

في سوريا شهادات للبيع!

2
2
2

في سجلّ الفساد السوري المثقل بالفضائح، تطلّ من حين لآخر قضايا تكشف عن ما هو أعمق من المال المنهوب أو السلطة المتغوّلة. إنّها قضايا تمسّ جوهر المجتمع وروحه، ومنها ما انكشف مؤخرًا في إحدى الجامعات الخاصة: شهادات مزوّرة، أوراق امتحانية مزيّفة، وطلاب يشترون علماً من ورق مقابل مبالغ طائلة. ليست المسألة هنا مجرد خلل إداري أو جريمة مالية، بل خيانة للمعرفة نفسها، وطعنة في قلب الجامعة التي يُفترض أن تبقى منارة عصيّة على الابتذال!

وزارة التعليم العالي، عبر وزيرها مروان الحلبي، أعلنت تفاصيل القضية: أربعة عشر طالبًا متورطًا، مالكون لجامعة وُضعوا تحت الحجز الاحتياطي على أموالهم، ومبلغ يقارب المليار ونصف المليار ليرة سورية يُقدّم كدليل صارخ على حجم الفساد. غير أنّ الأرقام وحدها لا تختصر المأساة؛ فالمسروق هنا ليس مالًا يمكن تعويضه، بل قيمة العلم التي تشكّل وجدان الأمة.

الجامعة، في المخيال الجمعي، ليست مبنى من حجر وقاعات خشبية، بل فضاء يتكوّن فيه الوعي الجمعي للأجيال، ومحراب تُصفّى فيه القيم وتُصقل المواهب. حين تتحوّل هذه المنارة إلى متجر تُباع فيه الشهادات كما تباع السلع، يسقط أحد أعمدة الدولة الحديثة. الطالب المجتهد، الذي يسهر الليالي ليقرأ ويكتب، يشعر بالإهانة حين يرى زميلًا يصل إلى ذات النتيجة عبر طريق مختصر من الرشوة والنفوذ. وهكذا ينشأ جرح نفسي عميق يولّد الإحباط واللاجدوى.

الصدمة تتجاوز حرم الجامعة لتطال المجتمع وسوق العمل. فما قيمة شهادة جامعية لم تعد تعكس كفاءة حقيقية؟ كيف يمكن لاقتصاد هش أن يحتمل موظفين يدخلون المؤسسات بلا جدارة؟ إنها خسارة وطنية مضاعفة: انهيار ثقة الداخل بجدوى الجهد، وانكماش ثقة الخارج بكفاءة الخريج السوري.

القضية ليست مجرد فضيحة عابرة، بل مرآة لثقافة ترسّخت لعقود، جعلت من النفوذ بديلاً عن الكفاءة، ومن الواسطة بديلاً عن العدالة. لكن، لعلها أيضًا فرصة لإعادة النظر في منظومة التعليم برمتها: فرصة لإحياء معنى الشهادة كرمز للمعرفة، لا كورقة للبيع والشراء.

فإذا كانت النار قد كشفت هشاشة البنيان، فقد يكون في هذا الحريق نفسه بذرة تطهير. فالمعركة الحقيقية لا تنحصر في محاكمة أربعة عشر طالبًا، بل في محاكمة ثقافة كاملة. وإذا نجح المجتمع في تنظيف التعليم، فإنه يؤسس لجيل قادر على استعادة الوطن من ركام الفساد.

لكن حين تتحول هذه المنارة إلى سوق تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، عندها ينهار المعنى كله. لم يعد المقعد الجامعي مكانًا لتكريس العدالة المعرفية، بل صار سلعة لمن يملك المال أو النفوذ. وهنا يبرز البعد التاريخي للفضيحة: إنها ليست وليدة لحظة، بل ثمرة ثقافة كاملة من الفساد، نمت وترعرعت على مدى عقود في ظل نظام جعل من الولاء أهم من الكفاءة، ومن الواسطة أهم من الاستحقاق.

وصفت الحادثة بأنها "طعنة في قلب المؤسسة الجامعية"، وهو توصيف يختصر عمق المأساة. فالجامعة ليست مجرد مبنى؛ هي إحدى أعمدة الدولة الحديثة. حين تهتزّ، يختلّ البناء كله!

فالقضية لا تتعلق بأربعة عشر طالبًا فقط، ولا بمالكي جامعة، بل بثقة المجتمع بأسره في منظومة التعليم. الطالب المجتهد الذي يسهر الليالي ليقرأ ويكتب ويبحث، يشعر أن جهده أضحى بلا قيمة حين يرى زميله يشتري شهادة كما يُشترى مقعد في مسرح. وتصبح القاعة الجامعية فضاءً لتكريس الظلم بدل أن تكون فضاءً للعدالة.

إنَّ الفساد التعليمي أخطر من أي فساد مالي. فالمال المسروق يمكن تعويضه، لكن حين يُسرق العلم، فإننا نواجه أجيالاً كاملة تدخل سوق العمل بلا كفاءة.

إنه فساد يخلخل البنية الاجتماعية من الداخل، لأنه يزرع ثقافة جديدة مفادها أن النفوذ أهم من الجهد، والمال أقدر من المثابرة. الطلاب المتورطون لم يضروا أنفسهم فحسب، بل أضروا بآلاف الطلاب الآخرين الذين جاهدوا بعرقهم لينالوا شهاداتهم. أضروا بسمعة التعليم السوري في الخارج، وحوّلوا الشهادة إلى ورقة فقدت معناها.

في أروقة جامعة دمشق، كان الغضب واضحًا بين الطلاب، فهناك من يبذل جهداً هائلاً لينجح، وحين يسمع أن هناك من اشترى شهادته، يشعر أن كل ما فعله بلا قيمة.

وكيف يمكن أن يثق الطالب بسوق العمل إذا كان بيننا من حصل على شهادة مزورة؟ الطلاب يطالبون بأن تُعلن أسماء المتورطين للرأي العام. التستّر على هذه الفضائح يفتح الباب للمزيد منها.

أصوات الطلبة هنا ليست مجرد احتجاج عابر، بل مرآة لخيبة جيل كامل يرى أحلامه تتبخر أمام فساد مكشوف، لا يطال شخصًا أو إدارة فقط، بل يهزّ معنى الحياة الجامعية برمتها.

لم يقف أثر الفضيحة عند حدود الجامعة. رجال الأعمال بدورهم عبّروا عن مخاوفهم. فهم يبحثون عن موظفين كفؤ، لكن إذا كانت الشهادات لا تعكس مستوى حقيقيًا، سيضطر صاحب العمل لإنفاق وقت ومال إضافي للتأكد من كفاءة كل موظف، أو الاكتفاء باستقدام خبرات من الخارج.

هذه ليست مشكلة فردية، بل كارثة وطنية. فحين يفقد سوق العمل ثقته بخريجي الجامعات المحلية، تتراجع فرص الاستثمار، وتقلّ رغبة الشركات في التوظيف، ويُستنزف الاقتصاد في إصلاح أخطاء موظفين غير مؤهلين.

الفساد التعليمي ليس جريمة تقنية وحسب، بل جرح نفسي عميق. الطالب الذي يفقد ثقته بعدالة الجامعة يفقد بالضرورة ثقته بالمجتمع. يتسلل إليه شعور بالعبثية: لماذا أتعب وأسهر وأكدّ إذا كان آخرون يشترون النجاح؟

هذا الشعور يولّد جيلاً محبطًا يرى أن الجهد الفردي لا قيمة له أمام المال والنفوذ. إنه فساد يولّد ثقافة الهزيمة، ويجعل المجتمع أسير فكرة أن الطريق إلى القمة لا يمرّ عبر الجهد، بل عبر الفساد.

المباني الجامعية في سوريا غالبًا ما تحمل طابعًا معمارياً يشي بالهيبة: قاعات واسعة، مدرجات تحتضن مئات الطلاب، مكتبات غاصّة بالكتب. لكن ماذا يبقى من هذه الهيبة إذا تلوثت الأرواح التي تتحرك داخلها؟

الجدران التي يفترض أن تشهد على نقاشات فكرية عميقة تصبح شاهدة على مساومات مالية. الممرات التي تعجّ بخطوات الطلاب نحو قاعات الامتحان تتحول إلى مجاز لخطوات نحو صفقات في الخفاء. حتى المقاعد الخشبية، التي احتضنت أحلام الشباب، تغدو مسرحًا لصمت ثقيل يخفي فسادًا مستشريًا.

بالرغم من كل السواد، يرى بعض الخبراء أن هذه الفضيحة قد تمثل فرصة. المعركة الحقيقية ليست فقط ضد 14 طالبًا أو إدارة متورطة، بل ضد ثقافة الفساد التي نخرت كل مفصل من مفاصل حياتنا. إذا نظفنا التعليم، يمكن أن نؤسس لجيل يبني الوطن بجدارة.

هذا الوعي، إذا ما تم استثماره، قد يحوّل الصدمة إلى حافز لإصلاح عميق يطال منظومة القبول، الامتحانات، آليات التقييم، والرقابة الداخلية. فالمحاسبة وحدها لا تكفي، بل يجب أن تتغير الثقافة الجامعية من الداخل.

فضيحة الشهادات المزوّرة ليست مجرد فساد مالي أو أكاديمي، إنها قضية هوية. التعليم هو العمود الفقري لأي مشروع نهضوي. فإذا فقد المجتمع ثقته بالشهادة الجامعية، فإنه يفقد أحد أهم مقومات النهوض.

إنها لحظة فاصلة، بين أن يُدفن التعليم السوري في ركام الفساد، أو أن يُبعث من جديد، أكثر نقاءً وصلابة.

القضية اليوم في عهدة القضاء، لكن السوريين جميعًا يترقبون: هل سيكون القضاء على قدر المسؤولية؟ هل سيتعامل مع الجريمة بوصفها جريمة ضد المجتمع كله؟

"شهادات للبيع" ليست مجرد عبارة، بل مرآة لمرحلة كاملة من الانحطاط. فحين تُباع الشهادات تُباع معها القيم، وحين يُزوّر العلم يُزوّر المستقبل.

وإذا كان الأمل باقياً، فهو في أن تتحول هذه الفضيحة إلى بداية لإصلاح شامل يعيد للتعليم السوري مكانته، ويمنح الطالب السوري حقّه الطبيعي في أن يحلم ويجتهد ويؤمن أن المعرفة وحدها، لا المال ولا النفوذ، هي الطريق الوحيد إلى القمة، التي يحاول الكثيرون الوصول إليها بهدف تحقيق حلم وردي طالما يسعون إليه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.