في لحظة من التاريخ البشري، لم نعد نُطوّر الأدوات فحسب، بل بدأت الأدوات تُعيد تشكيلنا. أصبح السؤال الذي كان يوماً من أسئلة الخيال العلمي مسألة وجودية واقعية: هل سنبقى بشراً كما نعرف أنفسنا، أم أننا نسير بخطى متسارعة نحو أن نتحول إلى امتدادٍ عضويّ لآلة لا تشبهنا، لكنها تعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا؟
إنَّ الدمج المتزايد بين الإنسان والتكنولوجيا ليس مجرد ترف علمي، بل بات مشروعاً حضارياً تتسابق عليه الدول، وتُسهم فيه الشركات الكبرى، ويُبرمج له العلماء بمعايير لا تخلو من الطموح… ولا من القلق!
من الأجهزة الذكية التي تراقب كل نبض، إلى الشرائح العصبية التي تُزرع في الدماغ لتحسين الأداء أو معالجة النقص، ومن الذكاء الاصطناعي الذي يقرر عنا، إلى النماذج الرقمية التي تُحاكي وعينا وتُرشّح مسارات قراراتنا… كل ذلك يُشير إلى أن الهوة بين الإنسان والآلة بدأت تُردم، لكن ليس لصالح الإنسان دائماً!
الإنسان عبر تاريخه كان يقاوم الطبيعة، يتكيّف معها، يصنع أدواتٍ تُضاعف قدراته، لكنه لم يسبق له أن صنع أداة تتسلل إلى وعيه، وتُعيد تعريف ذاته. اليوم، نحن لا نتعامل مع تقنية تُسرّع الأداء فحسب، بل مع منظومات تفكر وتحلل وتتوقع وتتعلم. الذكاء الاصطناعي لا يحتاج إلى عضلات، بل إلى بيانات… ونحن نزوده بها طواعية. نُخبره من نحب، وماذا نكره، كيف نتصرف، ومتى ننهار، وما الذي يجعلنا نضحك أو نخاف. وحين تمتلك الآلة وعياً إحصائياً بسلوك الإنسان، تبدأ تدريجياً بإعادة هندسة ذلك السلوك دون أن ننتبه.
الإنسان ما بعد الثورة الصناعية الرابعة لم يعد ذات الكائن الذي عاش ما قبلها. نحن اليوم نعيش في واقع هجين: نعتمد على تطبيقات كي نتذكر، على أجهزة كي ننام، على برمجيات كي نعمل، على خوارزميات كي ننتج، وشيئاً فشيئاً نفقد أهم ميزاتنا البيولوجية: النسيان، التردد، والدهشة. هذه الصفات التي جعلت من الإنسان كائناً شعرياً، فناناً، قلقاً، حالمًا… تُمحى لصالح كفاءة لا روح فيها. نحن نبرمج أنفسنا للتماهي مع منطق الآلة، فتُصبح العفوية ضعفاً، والبُطء خللاً، والمشاعر عبئاً.
ومع تسارع الأبحاث في الدمج بين الذكاء الاصطناعي وعلم الأعصاب، تبرز مشروعات تُبشّر بمستقبل يستطيع فيه الإنسان أن يُحمّل وعيه على وسيط رقمي، أو أن يعيد برمجة مشاعره، أو أن يُطوّر نسخة رقمية منه تتحدث وتتصرف بدلاً عنه. هذه الطفرات، وإن بدت إعجازية، تضعنا أمام سؤال لا يخص الأخلاق فقط، بل يهدد التعريف الأنثروبولوجي للإنسان: إذا فقدنا حدود الضعف، وإن أصبحنا نُعدّل قراراتنا عبر الخوارزميات، ونُبرمج وعينا على نحو متكرر، فهل نحن ما زلنا بشراً؟ أم مجرد غلافٍ عضوي لذكاء اصطناعي يتحرك فينا بصمت؟
إنَّ مسألة البقاء بشريين لا تتعلق بالجينات فقط، بل بالتجربة. فالإنسانية ليست بيولوجيا، بل مجموعة من الانفعالات، الأخطاء، المشاعر، القصص، الترددات، الخيبات، والمقاومة. لكن هذه الأمور لا مكان لها في منطق الآلة. الآلة لا تُخطئ إلا تقنياً، ولا تندم، ولا تحب، ولا تُسامح. هي لا تعرف ماذا يعني أن تصمت لأنك متألم، أو أن تتحدث لأنك تخشى الصمت. هذه التفاصيل الدقيقة هي التي جعلت من الإنسان كائناً يستحق أن يُحتفى به، لا أن يُعاد ترميزه وفق منطق الصواب والخط المستقيم.
إذا أردنا أن ننجو من الانزلاق الكامل نحو التماهي مع الآلة، فعلينا أن نُعيد التوازن بين التقدم والهوية. الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون نعمة خارقة، إذا بقي أداة في يد إنسان متجذر في وعيه البشري. لكنه يصبح خطراً وجودياً إذا تحول الإنسان إلى أداة داخل منظومة صنعها، ثم خضع لها، ثم اندمج فيها حتى لم يعد يميز أين انتهى هو… وأين بدأت هي.
إنَّ السؤال ليس: هل سنصبح مثل الآلة؟
بل: هل سنبقى نعرف معنى أن نكون بشراً؟
في زمنٍ تُقاس فيه القيمة بسرعة الاستجابة، وتُقارن الأرواح بالبيانات، فإن معركة الإنسان الحقيقية لم تعد ضد الجوع أو الحرب أو الفقر… بل ضد الذوبان.
الذكاء الاصطناعي لا يهدد أجسادنا… بل أرواحنا.
ولعل أعظم انتصار لنا لن يكون أن ننتج آلات أذكى، بل أن نُبقي داخلنا شيئاً لا يمكن برمجته. شيئاً إنسانياً، هشاً، جميلاً، و… لا يمكن نسخه.