: آخر تحديث

استجواب صحافي بسبب صورة

3
3
3

في الشارع العريض بحيِّ المَزّة الدمشقي، ذلك الشارع الذي اكتسب بَذخَه المعماري من ذاكرةٍ دبلوماسيةٍ عميقة، خرج الصحافيُّ السوريّ أمجد الساري من معرضٍ فنيٍّ في المركز الثقافي القريب، مُثقلًا بصُوَرٍ وأفكارٍ عن الجمال وطاقته التعبيرية. ولم يخطر بباله أنّ ضغطةً عابرةً على هاتفه لالتقاط واجهة السفارة الإيرانية من الرصيف العام ستنقلب إلى ساعاتٍ من التحقيق والإذلال.

ما جرى للساري ليس حادثةً عَرَضية، بل مرآةٌ لحالة اختناقٍ تتنفسها الحريات؛ إذ يُصبح الفعل الصحافي اليوميُّ رهينةَ مزاج أجهزةٍ أمنيةٍ لا يكبحها قانون. أن يُستدعى صحافيٌّ ويُحتجزُ فقط لأنّه التقط صورة، ويُفتَّش هاتفُه وتُمحى ذاكرته بالرغم من تعاونه الكامل، فذاك انتهاكٌ لا يطعن شخصاً بعينه، بل يضربُ في صميم المهنة وأبجديّات المواطنة.

اللقاء الذي جمع الساري بوزير الإعلام، بحضور مدير العلاقات الصحفية في الوزارة، بدا في ظاهره تصالحيّاً، لكنّه أبان عن مأزقٍ أعمق يتجاوز الأفراد: مأزق حدود الدور الصحافيّ ومفهوم الحرية في دولةٍ تزعمُ أنّها تخطو نحو إعادة الإعمار وبناء عقدٍ اجتماعيٍّ جديد.

الوزيرُ، الذي أكّد التزام وزارته بحماية الصحافيين وتهيئة بيئةٍ مهنيةٍ آمنة لهم، وعد بمتابعة القضية رسميّاً. غير أنّ السؤال يبقى مُعلَّقاً: هل تكفي الوعود الوزارية في مناخٍ ما يزال العمل الصحافيُّ فيه محفوفاً بالمخاطر، وتُعامَل فيه الكاميرا كأداة تهديدٍ لا نافذةً على الحقيقة؟

الساريُ، في حديثه، لم يطلب اعتذاراً بل تقويم مسار. لم يسعَ إلى تضخيم الواقعة، بل نبّه إلى خطر تطبيع الانتهاك وتحويله إلى سلوكٍ ممنهجٍ يقوّض الحياة المدنية. دعا إلى بدَهِيَّات: قوانين واضحة، هوية ظاهرة للعناصر الأمنية، وتدريبٍ على احترام الكرامة الإنسانية. ليست هذه مطالب استثنائية، بل حقوقاً أولية في أيِّ مجتمعٍ يتطلع إلى أن يكون قانونيّاً وديمقراطيّاً.

إنّ تاريخ حيِّ المَزّة الطويل، الذي شهد مولد قراراتٍ دبلوماسيةٍ وضجيج تحولاتٍ سياسية، لم يكن يوماً مسرحاً لانتهاك الحريات الشخصية بهذا القدر من الفجاجة. الصورة التي التقطها الساري ـ ثم مُحيت ـ لم تكن مجرّد واجهة مبنى؛ بل كانت مجازاً لصورةٍ أكبر: صورة العلاقة المهترئة بين المواطن والدولة، بين الحرية والرقابة، بين الكلمة والمقصّ.

والمؤلم أنّ الفنَّ، الذي خرج منه الساري متخماً بإلهامٍ حر، لم يستطع حمايته من واقعٍ أمنيٍّ ثقيلٍ يتعامل مع الكلمة والصورة بوصفهما جريمة. كأنّ الدولة نفسها تعاني انفصاماً بين ما تُعلنه من فضاءات انفتاحٍ وتعدّد، وما تمارسه من تضييقٍ واستئصالٍ لكل تعبير.

هذه القضية، التي كاد يُطوى ملفّها لولا إصرار الصحافيّ على كشفها للرأي العام، تضعنا أمام سؤالٍ مركزي: أيُّ دولةٍ نريد أن نبني؟ دولةٍ ترتعدُ من عدسة كاميرا، أم دولةٍ تثق بمواطنيها وتفتح أبواب النقد والمحاسبة طريقاً إلى العدالة؟

ما حدث أمام السفارة الإيرانية لا ينبغي أن يُقرأ حادثةً دبلوماسيةً أو أمنيةً فحسب، بل ناقوسَ خطرٍ يدقّ. فالدولة التي لا تحمي حرية صحافيٍّ في تصوير واجهة، هي ذاتها التي قد تعجز عن صيانة كرامة مواطنيها حين تعصف الأزمات.

الحرياتُ لا تُمنَح منّةً، بل تُصان حقّاً. واحترامُ القانون يبدأ عندما يُحاسَب من يخرقه، لا من يُعرّيه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.