: آخر تحديث

موسكو توقّع الاتفاقات الاقتصادية وواشنطن غارقة بالحرب الإيرانية

3
3
3

في لحظة يبدو فيها الغرب غارقًا في أزماته الداخلية، وفي حرب استنزاف لا نهاية لها في أوكرانيا وإيران، اختارت روسيا أن تردّ على الصورة النمطية التي تُرسم لها: لا بالعسكر، بل بالاقتصاد.

منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي لهذا العام لم يكن فعالية عابرة. بل منصة روسية متكاملة، اختارت موسكو من خلالها، "إعادة تصدير" ذاتها للعالم كمحور عالمي قيد الترسيم، وقوة قادرة على تحدي: العقوبات، والعزلة الغربية، بمجموعة من الأرقام والرسائل الصريحة.

المنتدى الذي انعقد بين 18 و21 حزيران (يونيو) الجاري، شهد توقيع ما وصل إلى 1060 اتفاقية، بقيمة إجمالية بلغت 6.3 تريليون روبل (قرابة 80 مليار دولار)، في رقم غير مسبوق منذ تأسيس المنتدى في تسعينيات القرن الماضي. حكومة مدينة سان بطرسبورغ وحدها، أبرمت 67 اتفاقية، بينها أكثر من 40 استثمارية، بقيمة فاقت التريليون روبل.

هذه الأرقام لم تأتِ من فراغ، بل عبّرت عن رغبة روسية واضحة بإظهار متانة النظام الاقتصادي بوجه العقوبات، وإثبات أنَّ البلاد قادرة على جذب الاستثمارات بالرغم من الضغوط الغربية، وكذلك على خلق بيئة أعمال متنوعة، تغري شركاء من أكثر من 140 دولة كانوا حاضرين في فعاليات المنتدى.

في الخلفية، بدا أنَّ المنتدى تحوّل إلى "عرض" روسي متكامل: هناك الاقتصاد، وهناك السياسة، وهناك الثقافة. أكثر من 60 ألف شخص احتشدوا في "ساحة القصر" (Palace Square) في سان بطرسبورغ (الساحة المركزية التي تقع أمام متحف "إرميتاج") لمتابعة حفل موسيقي ضخم ضمن البرنامج الثقافي المرافق، بينما استُكملت الفعاليات بمسابقات رياضية في 18 مجالًا.

التغطية الإعلامية كانت متنوعة، وأكثر ما لفت الأنظار هو اختيار الزميل نديم قطيش (مدير محطة سكاي نيوز العربية - أبو ظبي) من أجل محاورة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي أدهش الرأي العام الروسي بصراحته وبأسئلته الجريئة التي لم يسبق أن سألها صحافيّ لبوتين من قبل.

ركزت التغطيات الإعلامية على جوانب متنوعة وحاولت القول إنَّ روسيا لا تزال "حية وتحتفل" في وقتٍ يُراد فيه إظهارها محاصَرة أو منهارة.

لكنَّ اللافت هذا العام، لم يكن فقط كمّ الاتفاقيات أو قيمتها، بل طبيعة الملفات التي شملتها: من الطاقة إلى البنى التحتية، ومن الزراعة إلى التقنيات الرقمية، مرورًا طبعًا بالصحة والدواء والتكنولوجيا والنفط والغاز.

الملف الإيراني والضربة الإسرائيلية، ثم الأميركية ضد مشروعها النووي كانت هي الآخر حاضرة، إذ تزامنت مع آخر يوم في المنتدى. روسيا التي عارضت الضربات الأميركية – الإسرائيلية.

لم تعد موسكو تكتفي بترويج قطاعها النفطي والغازي، بل باتت تعرض مجموعة واسعة من الوساطات السياسية، والمشاريع التي دلت على محاولات جدية قام بها الكرملين من أجل فك الارتباط بالتكنولوجيا الغربية، ولترسيخ نموذج اقتصادي أكثر تنوعًا وقدرة على المناورة.

الحدث الإيراني "أكل الجو" وكان الحديث فيه بمنزلة "ضيف دائم" في أغلب حلقات النقاش بالمنتدى. إن كانت تلك الجانبية أو المداخلات السياسية للرسميين ورؤساء الشركات ورجال الأعمال. التقارير التي تحدّثت عن الضربات الإسرائيلية - الأميركية مستهدفة منشآت نووية إيرانية قبل وأثناء المنتدى، أطلقت حالة من الترقب والقلق، خصوصًا بعدما كشفت تسريبات إعلامية إسرائيلية أنّ التقديرات تشير إلى مقتل ما بين 800 و4000 شخص في حال ردت إيران بصواريخها... مما أوحى بأنّ النزاع قد يطول لولا التدخل الأميركي الذي لجم الأمور في اللحظة الأخيرة (أقله حتى الآن).

المسؤولون الروس عارضوا الضربة، لكنّهم أكدوا على حقّ إيران بتخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية. كانوا واضحين في إظهار انزعاجهم من مناخ التصعيد، وحرصوا في الكواليس على الترويج لمقاربة أكثر عقلانية وواقعية، تتفادى التورط في حرب إقليمية واسعة.

الحدث الإيراني ألقى بظلاله كذلك على مناقشات "أمن الطاقة"، خصوصًا في ظل الحديث عن استهداف منشآت نفطية استراتيجية، وتهديد الإيراني باستهداف منشآت نفطية وذرية إسرائيلية، كانت قادرة على جرّ المنطقة إلى صدام واسع ومفتوح، قد يهدد سلاسل الإمداد ويُربك أسواق الطاقة العالمية.

من هذا الباب، بدا أنّ روسيا قد وجدت نفسها مجددًا في موقع "اللاعب" القادر على لعب دور الوسيط أو على الأقل موازنة بين الكفّتين، خصوصًا في ظل علاقاتها الوثيقة مع إيران، وقنواتها الدبلوماسية المفتوحة مع تل أبيب.

كلمات فلاديمير بوتين حملت دلالات رمزية كبيرة. فاختار الرئيس الروسي أن يصف المنتدى بأنّه منصة من أجل "النمو في عالم متعدد الأقطاب"، مشددًا على أهمية القيم المشتركة كأساس لبناء نظام اقتصادي عالمي أكثر عدلًا. وبرغم أن تصريحاته لم تتضمن هجومًا مباشرًا على الغرب، إلاّ أنّ الرسائل الضمنية كانت واضحة: روسيا تطرح نموذجها الخاص، وتدعو الآخرين إلى التعامل معها ليس بوصفها "منبوذة"، بل شريكًا قادرًا على المساهمة في إعادة تشكيل النظام العالمي – سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.

كان منتدى سان بطرسبورغ هذا العام أكثر من مجرد حدث اقتصادي. بل إعلان سياسي واقتصادي وثقافي بأن روسيا لا تعاني، ولا تنوي الانكفاء، بل تتقدم بخطى محسوبة نحو عالم ما بعد القطب الواحد. ومن خلف الستار، كان ذلك بمثابة "استفتاء" داخلي وخارجي على مشروعية النموذج الروسي، وإن كان قادرًا على جذب الاستثمارات وكذلك الأنظار. والأهم: تقديم نفسه كحائط صدّ أمام الحروب التي تقترب من الاشتعال على أكثر من جبهة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.