ليس من نافلة القول إنَّ حضور القيادة السعودية في موسم الحج يُختصر في التوجيهات العليا ويتجلى في متابعة خادم الحرمين الشريفين المباشرة، والوجود الميداني لسمو ولي العهد خلال أيام الحج، ما يؤكد أن هذا الحدث لم يُترك للعفوية أو الروتين المؤسسي. إنَّ استحضار القيادة في تفاصيل التخطيط والتنفيذ يؤسس لمبدأ "المسؤولية الشرعية والإدارية" في رعاية ضيوف الرحمن، ويعكس بوضوح أن المملكة تنظر إلى الحج بوصفه قضية سيادة دينية قبل أن يكون واجبًا تنظيميًا.
قد يرى بعضهم أن تعدد الجهات المشاركة في إدارة الحشود يُضعف فاعلية القرار، لكن التجربة السعودية أثبتت العكس تمامًا. فمن خلال جهود متكاملة لست جهات سيادية وتنفيذية، هي: وزارة الداخلية، ووزارة الحرس الوطني، والأمن العام، ووزارة الحج والعمرة، ورئاسة أمن الدولة، وهيئة التطوع، تم تحويل هذا التعدد إلى قوة تنظيمية. لقد أظهرت الجهات الأمنية على سبيل المثال قدرةً فذة على ضبط أكثر من 1.6 مليون حاج نظامي، ومنع أكثر من 141,000 شخص من مخالفة التعليمات؛ مما يدل على أن "تعدد الأطراف" كان خاضعًا لمنظومة قيادة موحدة وحوكمة دقيقة.
حين يُسجَّل أن 34,540 متطوعًا ومتطوعة شاركوا خلال أيام الحج، وأنهم قدّموا 2,134,398 ساعة تطوعية في المشاعر المقدسة، فإن ذلك مؤشر حضاري على نضج مفهوم المواطنة. لقد تحوّل العمل التطوعي من مساهمة هامشية إلى "رافعة وطنية" تسند الأجهزة الرسمية. وهذا يعكس التفاعل المجتمعي، ويطرح حجّة قوية في وجه من يرى أن المجتمعات الإسلامية غير قادرة على التعبئة المدنية المنظمة.
في ذاكرة الشعوب، تبقى الصور لا التصريحات. والمشهد الإعلامي الذي ظهر فيه المسؤول السعودي هذا العام يعكس تحوّلًا نوعيًا في صورة الدولة. لم نرَ مسؤولًا يرتدي عباءة البروتوكول، ولكن رأيناه في مواقع التفويج، والمرور، ومراكز الخدمة؛ يباشر بيديه وقراراته. لقد أصبح رمزًا لبلدٍ يخاطب العالم بالفعل لا بالقول. وتكفي الإشارة إلى أن أكثر من 800 ألف حاج من خارج المملكة توافدوا هذا العام وتم تفويجهم عبر 14 محورًا ميدانيًا بنجاح كامل، ليكون هذا التفوق أبلغ من أي خطاب.
لم يعد الحج مجرد مناسبة دينية موسمية، بل بات تجربة سيادية متكاملة تقدمها المملكة سنويًا للعالم. إن سؤال الإعلام العالمي لم يعد "كيف تُنظم السعودية الحج؟" بل "كيف تصنع دولة واحدة هذا القدر من المجهود والانضباط والخدمة؟". وفي ذلك تُبرهن المملكة أن "اختصاص المكان" يقابله "اختصاص في الأداء"، وأن خدمة الحجيج ليست امتيازًا سياسيًا، وإنما عقيدة وطنية تجسّدها مؤسساتها وتنفذها سواعد أبنائها، متطوعين ومسؤولين على حدّ سواء.