: آخر تحديث

فيدرالية الرواتب أم شرعية الدستور؟

9
7
6

من بين أعمدة الدولة العراقية، تقف الشرعية الدستورية كجدار لا ينبغي التسلّق عليه بمزاج المراحل، ولا يُعاد تفسيره كلما تعثرت الحسابات السياسية. إنها ليست وجهة نظر، ولا جملة اعتراضية في خطاب متشنج، بل ركيزة تأسيس لا تقبل الاجتهاد، ولا تحتمل التفاوض تحت ضغط الشعارات. ولهذا، حين تلوّح حكومة إقليم كردستان بتصعيد إعلامي وسياسي ضد بغداد بحجة تأخر تمويل الرواتب، فإننا لا نواجه أزمة مالية عابرة، بل نقف على تخوم سؤال أخلاقي ودستوري وسيادي: هل ما يحدث دفاع عن حقوق الموظفين؟ أم هو استخدام مكرّر لورقة الرواتب كسلاح ضغط خارج منطق الدولة؟

إن الدخول في تفاصيل هذه الإشكالية يتطلب نزع الغبار عن الوقائع، لا تنميق الخطاب. فلنقلها صراحة: هناك فجوة بين ما يُقال وما يحدث، بين فيدرالية تُطالب دون التزامات، ومركز يتحمّل مسؤولياته الدستورية وسط ضباب من التضليل.

في صلب الأزمة، لا تكمن المشكلة في "الرواتب" نفسها، بل في التفسير الانتقائي للفيدرالية، حين يُراد لها أن تكون حقًا للتمويل ومزاجًا في التسليم. فالدستور العراقي، وهو المرجع الأعلى الذي يُحتكم إليه الجميع، لا يتحدث عن دفع مركزي مباشر لرواتب موظفي الإقليم، بل يُقر بمنح الإقليم نسبة محددة من الموازنة العامة – 12.67% – تقوم حكومة الإقليم ذات السيادة المحلية بتوزيعها داخليًا وفق أولوياتها: رواتب، مشاريع، نفقات.

ومع ذلك، ما حدث فعلاً – وفق كتاب رسمي صادر عن وزارة المالية العراقية في أيار/مايو 2025 – أن حكومة الإقليم استلمت منذ عام 2023 وحتى نهاية نيسان 2025 ما قيمته 19.9 تريليون دينار عراقي من عائدات النفط والموارد غير النفطية، ولم تسلّم منها إلى الحكومة الاتحادية سوى 598.5 مليار دينار، أي ما يقل عن 3% من مجموع الإيرادات. ورغم ذلك، فقد موّلت بغداد نفقات الإقليم بما يفوق 13.5 تريليون دينار، أي بزيادة واضحة على حصته المتفق عليها. أين إذًا ذهبت أموال النفط؟ ولماذا لا يُفتح هذا السؤال بحجم ما يُرفع من ضجيج؟

هل يمكن بعد هذا أن يُقال إن بغداد قطعت الأرزاق؟ بل أين المظلومية في مشهد كهذا؟ هل في التوقف عن تمويل غير مشروع؟ أم في التغاضي المستمر عن التزامات لم تُنفذ؟ إن تحويل التمويل إلى "قضية إنسانية" هو تسطيح لمسألة تتصل في جوهرها بالعدالة والرقابة على المال العام، وبحق الشعب العراقي – شمالاً وجنوبًا – في معرفة كيف تُصرف ثرواته.

وقد جاءت كلمات الرئيس محمد شياع السوداني واضحة لا تحتمل التأويل:
"لا يوجد شيء في الدستور اسمه رواتب موظفي الإقليم تُدفع مباشرة من بغداد. ما يوجد هو إنفاق عام تُمنح منه نسبة محددة للإقليم، وهو من يديرها بحكومته وبرلمانه. وإذا أراد الإقليم أن تُصرف الرواتب من الحكومة الاتحادية، فعليه أولاً أن يتنازل عن كيانه السياسي المحلي."

هذا ليس تهديدًا، بل قراءة أمينة للدستور، ودعوة لتوضيح المفاهيم التي باتت تُستهلك في الإعلام بلا مرجعية. ومن هنا، فإن توطين الرواتب – كما حدث بنجاح في المحافظات السنية عام 2022 – لم يكن عقوبة، بل آلية حماية. إذ تم تحويل الرواتب مباشرة من البنوك الحكومية إلى حسابات الموظفين، بإشراف ديوان الرقابة المالية، فتوقفت التلاعبات، وسادت الشفافية، واطمأن الناس إلى أن أرزاقهم لا تمر في دهاليز التفاوض.

وليس بعيدًا عن ذلك، فإن الحديث عن "الثروة النفطية الكردية" لا بد أن يُوضع تحت المجهر، إذ تشير تقديرات رسمية إلى أن حكومة الإقليم تُنتج ما يقارب 400 ألف برميل يوميًا، وهي ثروة قادرة – إذا ما أُديرت بشفافية – على تغطية رواتب موظفي الإقليم ثلاث مرات، لو تم تسليم حتى 50% من عائداتها إلى بغداد. لكن المفارقة أن أربيل تحتفظ بالنفط وتطلب من بغداد الرواتب، ثم تصعّد سياسيًا حين تُسأل: أين إيراداتكم؟ هل نعيش في جمهورية واحدة أم في ميزانيات متعددة؟

هكذا يتجلى جوهر الأزمة: انفصام في العلاقة بين الحق والواجب، بين المطالبة والمحاسبة. أربيل تطالب بأموال بغداد، لكنها لا تسلّم مواردها من المنافذ والضرائب والنفط، وتعتبر المراقبة تعديًا على خصوصيتها، وتصر على أن تُعامَل كدولة في الربح وكإقليم عند العجز.

لكن الدولة لا تقوم بهذا المنطق. والدستور لا يُقرأ حسب المزاج. والفيدرالية، كما تُعرّفها النظم الديمقراطية، تقوم على تقاسم الموارد والسلطة معًا، لا تقاسم المال فقط. لا يجوز أن تتحول علاقة المركز بالإقليم إلى تمويل دون مساءلة، وصمت أمام خروقات دستورية متكررة.

إن ما نحتاجه ليس فقط معالجة مالية، بل إعادة تعريف للعقد الوطني نفسه. أن تُبنى العلاقة على وضوح، لا على تسويات ظرفية. أن تكون الرواتب حقًا ثابتًا، نعم، ولكن ضمن منظومة شفافة تُلزم الجميع بما عليهم، قبل أن تمنحهم ما لهم.

ومن هنا، فإن التصعيد الأخير من أربيل، مهما علت نبرته، لن يغيّر من جوهر المسألة شيئًا: لا يمكن لأي شراكة أن تستمر إذا أُخضعت لمزاج التوقيت، أو استُعملت فيها حاجات الناس وسيلة تفاوض. وما يُطلب اليوم هو في الحقيقة بسيط: العودة إلى الشرعية، لا الاستقواء بالخطاب العاطفي.

ليست هذه دعوة للقطيعة، بل للوضوح. ليست خصومة مع الإقليم، بل دعوة لفهم الفيدرالية بوصفها نظام توازن، لا امتياز دائم. فأموال الدولة لا تُدار كالغنائم، والدستور لا يُفسر حسب نشرة الأخبار، والراتب ليس هبة بل أمانة، يُدفع حين تتضح الإيرادات، وتُضبط المصروفات، وتُصان الشفافية.

فالسؤال اليوم لم يعد موجهًا للحكومة وحدها، بل لكل من يعنيه مستقبل هذا الوطن:
هل نريد فيدرالية تُبنى على المطالب وحدها، أم دولة يحكمها الدستور؟
إن العراق لا يُدار بالهتاف ولا بالضجيج الإعلامي، بل بالعقل والحوار، وبالتفاهم لا التلاعب، وبالتعاون لا الابتزاز.
تُبنى الأوطان حين يتقدم القانون على الشعارات، وحين تُعلّى المصلحة العليا على الحسابات الضيقة.
هذا الوطن، بتاريخه وتعب أبنائه، لا يستحق أن يُدار بالعواطف العابرة، بل بمسؤولية الشركاء في بناء دولة عادلة، تحمي الحقوق وتؤدي الواجبات على قدم المساواة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.