مرت عقود على تغوّل نظام ولاية الفقيه في إيران، ليس على الشعب الإيراني وحده فقط، بل على شعوب المنطقة كافة، بغضّ النظر عن نوعية الأنظمة فيها، أو قربها أو بعدها الجغرافي عن مركز حياكة المؤامرات، وزعزعة أمن واستقرار المنطقة برمتها، وذاك هو ولا يزال نظام الاستبداد الإيراني التوسعي.
اليوم، يعيش هذا النظام مرحلة انعدام وزن واتزان، إذ ركبه الغرور منذ بداية استلامه الحكم عام 1979، حيث بدأ يُمهّد ويخطط لأجل هيمنة إقليمية، لاهثاً وراء إذلال شعوب المنطقة، وسرقة خيراتها، لطالما سال لعابه بسبب وفرتها، بغضّ النظر عن الوسائل العدوانية التي ينتهجها في مسعاه هذا، وعن الخراب الذي سيطال البشر والحجر هنا وهناك.
لقد تسلل النظام القمعي الإيراني إلى المنطقة العربية في غفلة من الزمن، وثبّت لنفسه موطئ قدم في أكثر من دولة عربية عبر وكلائه الذين غذاهم بالمال والسلاح، وفوّضهم بالإنابة عنه بالتدخل السافر في شؤون دولهم، ومناكفة أنظمتها السياسية بقوة السلاح، ما أدى إلى ازدياد تجبّر نظام ولاية الفقيه، وسرعة تمدده وانتشاره في تلك الدول بشكل أقرب للاحتلال منه إلى وجود أحزاب سياسية تؤمن بوطنيتها، وتسعى لخدمتها والدفاع عنها أمام أي اعتداء مهما كان لبوسه ومبتغاه.
لقد اعتقد نظام الملالي في مرحلة من المراحل بأن ثقله المزروع فوق أغلب الأراضي العربية سيعينه على تحقيق حلمه بالسيطرة على مقدرات تلك الدول، وتوجيه دفة السياسة فيها كما يحب ويشتهي بما يوائم نهجه الاستبدادي، ويتناغم مع ما رسم من سياسات عدوانية (براغماتية) متشددة، لكنه لم يدرِ في خلده أنه سيُطرد شر طردة، وأنه سيُهزم هزيمة نكراء لا زال يعاني إلى الآن من قوة صدمتها، ما أدى إلى تخلخل توازنه، وضعضعة هيبته، وزيادة الانقسامات في الآراء بين الساسة في طهران، حيث طفت على السطح الخلافات حول مسائل عديدة كانت تُعتبر مسلّمات لا مكان للتجادل فيها، ولا اختلاف في الآراء حولها. ومع ذلك، ما زال نظام ولاية الفقيه يحاول لملمة أوراقه السياسية المبعثرة التي (طيرها الريح)، ونثرها نثراً أضعفها وكاد أن يمزقها نتفاً، فخلاياه النائمة في سوريا ربما يبحث عن بعض التعويل عليها عبر اتصالاته بها، وحثها على التحرك المضاد بالتنسيق مع فلول نظام الأسد البائد، حيث تسيطر عليهم شهوة الانتقام، والرغبة في استعادة ما افتقدوه من جاه ومال، وسلطة يُسخّرونها للتحكم في رقاب الشعب الذي قدم القرابين النفيسة على مذبح الحرية.
إن هذه الخلايا النائمة في سورية قامت بعدة محاولات فاشلة اتسمت بالغدر بعد الصفح، وهي ما زالت تتحيّن أية فرصة للانقضاض على أمل أن تتمكن من خلط الأوراق ليأتيها الدعم الخارجي ويُثبت أركانها، لكن يبدو أن تصميم الشعب السوري بقيادته الجديدة لا يحده حد، وهو مستعد للعض بالنواجذ على حرية نالها، واستطعم بلذة مذاقها لأول مرة بعد أكثر من نصف قرن ونيف من الزمن عاشها بظلم وتجهيل يفوقان الوصف والتوصيف.
إن نظام ولاية الفقيه في إيران يمرّ اليوم بأخطر مرحلة يعيشها داخلياً وإقليمياً ودولياً؛ فعلى الصعيد الداخلي – بات الشعب الإيراني غير قابل للتراجع عن خطوات ذات فرجات واسعة ابتدأها، وقدم من خلالها الضحايا تلو الضحايا كرمى لعيني انتفاضته المباركة الحبلى بجنين النصر قريب الولادة. وعلى الصعيد الإقليمي – لم يحصد نظام ولاية الفقيه من تدخلاته في شؤون دول المنطقة سوى الخيبة المُرّة المفعمة بالضربات الماحقة غير المتوقعة، سواء في لبنان بعد إبادة قيادات الصف الأول لحزب الله (ذراعه اليمين)، وتدمير كميات مهولة من السلاح بمختلف أنواعه على يد الجيش الإسرائيلي بطائراته المتربصة لكل ما هبّ ودبّ، ما أرغم حزب الله على الرضوخ والقبول بالشروط المُذلّة له ولوليّ نعمته نظام ولاية الفقيه التي وضعتها إسرائيل.
وعلى الصعيد الدولي – مع استمرار فرض العقوبات الدولية على نظام الملالي في إيران، نجد انهياراً كبيراً في الاقتصاد، إذ تراجع بشكل مخيف، وبدأ يضغط على كافة القطاعات ويصبغها بالشحّ الأقرب إلى التداعي... فعلى صعيد الشعب، الطبقة الوسطى في طريقها إلى التلاشي، وبذات الوقت الغني يزداد غنى، والفقير يزداد فقراً، وقيمة التومان الإيراني تهبط وتتدنى يوماً بعد يوم، بينما ترتفع معدلات البطالة بشكل يدعو للقلق، ما يجعل الشعب الإيراني يستمسك أكثر بانتفاضته، وتصميمه على المضي قدماً في مقارعة النظام مهما كبر حجم التضحيات... لذلك، على المجتمع الدولي إن أراد الاستقرار لمنطقة الشرق الأوسط، وسيادة الأمن فيها، أن يسلك أقرب وأقصر الطرق للتخلص من نظام ملالي إيران، فالشعب الإيراني خليق بأن تسانده كل الشعوب المحبة للسلام بقياداتها السياسية للتخلص من نظام قمعي بات مدعاة لزعزعة أمن واستقرار المنطقة برمتها، فليُترك الشعب الإيراني في مسعاه الوطني المشرف لإسقاط النظام الإيراني المستبد، ويستعيد حريته وحيويته بعد أن يقضي على عفونة الجهل، ويمحو ظلام التخلف المعشعش في الجماجم الرجعية البعيدة كل البعد عن التحضر والرقي والازدهار.
وهنا يبرز سؤال هام جداً وهو: ما الذي يمنع دول العالم الحر من الوقوف إلى جانب نضال الشعب الإيراني ومقاومته المنظمة بدلاً من تكرار أضحوكة المفاوضات على برنامج الملالي النووي الذي لن يتنازلوا عنه ضماناً لبقائهم، ويعرف الجميع ذلك؛ في حين تدعو المقاومة الإيرانية إلى إقامة إيران ديمقراطية وغير نووية؟ والجواب هنا أن من لا يقف إلى جانب نضال الشعب الإيراني داعمٌ لبقاء نظام ولاية الفقيه لا محالة، ومستعدٌ لقبول مشروع الملالي النووي الذي سيحوّل المنطقة إلى ساحة كبرى للتسلح والصراع.