لم تكن استقالة القرداحي أمرا مفاجئا، فالجميع كان ينتظر أن تضحي لبنان بوزيرها من دون أن تلتفت لكلامه عن الكرامة، وهو الذي وضع نفسه في موقف محرج من البداية بقبوله المنصب، متناسيا أن دول الخليج لن تغفر له وصفه لتدخلها في اليمن بالعبثية، ومتناسيا أن ثقل الرئيس الفرنسي ماكرون في لبنان وعلاقاته القوية مع دول الخليج، كفيل بأن يزيحه من المشهد بمجرد مكالمة هاتفية.
لقد منح القرداحي فرصة من ذهب لماكرون في ارضاء حلفاءه الخليجيين والتأكيد على عمق العلاقات بين باريس من جهة والرياض وأبوظبي من جهة أخرى، مستغلا نفوذه القوي داخل قصر بعبدا، والذي زاد بعد حادثة مرفأ بيروت، عندما لبنان من دون استئدان، موبخا ومحتقرا الجميع، ليعلن عن عودة زمن الوصاية الفرنسية على لبنان.
لقد كانت زيارة ماكرون الى أبوظبي ولقاءه بولي العهد السعودي، فرصة لمناقشة موضوع لبنان واعطاء الأوامر للقرداحي بضرورة التنحي، بالرغم من ان وجوده من عدمه لا يغير من لبنان التعيس شيئا، ولكنه كفيل بإطفاء غضب الخليجيين الذين شعروا بالاستفزاز والتحدي عند تعيينه وزيرا للإعلام، وجاءت هذه الخطوة الاستباقية لتقطع الطريق على ايران، قبل أن تسقط الآلة الاعلامية المفلسة في لبنان في أيدي طهران وتتحول الى بوق ينشط ضد دول الخليج.
ولكن ثمة سؤال جوهري وهو: هل ستعود المياه الى مجاريها بين بيروت والرياض بمجرد تنحي القرداحي أم أن للموضوع أبعاد اخرى لها علاقة بإيران؟
اذ لا يخفى على الجميع أن ايران تتمتع بنفوذ كبير في جنوب لبنان من خلال حليفها حزب الله، كما قادت العديد من المحاولات الفاشلة لإغراق السعودية بكميات ضخمة من المخدرات عبر مطار بيروت، عن طريق لبنانيين متعاونين معها، الشيئ الذي جعل لبنان يشكل تهديدا أمنيا لدول الخليج على بعد مئات الكيلومترات، عجزت عن صده الحكومات اللبنانية، ليس لضعفها فقط، بل لأنها لاتهتم لنفوذ حزب الله بقدر ماهي مهتمة بالنهب وتحويل دولارات لبنان الى الخارج.
يبدوا أن دول الخليج غير مستعدة لمد يد العون للبنان، ما دامت ايران تسير بواخرها باتجاه موانئه وتحمل بواخر النفط والسلاح، وما دامت القوى السياسية الفاعلة في لبنان غير قادرة على أن تتجرأ بفتح ملف حزب الله ونفوذ ايران فيه، وما دامت رائحة الفساد المالي تفوح من دون حسيب أو رقيب.
لقد فهمت دول الخليج بأن لبنان قد سقط في فخ ايران التي فتحت بنوكها لتلقي حقائب الدولارات من ناهبي المال العام، ولهذا لا تريد أن تغامر حتى تلمس جدية من الطرف اللبناني ورغبة في انقاذ لبنان من الأخطبوط الإيراني الذي مد أطرافه الى البحر الابيض المتوسط.
لبنان اليوم أمام مرحلة مفصلية تحدد مستقبله، فاذا أراد السياسيون انقاده من التفكك ينبغي أن يقفوا وقفة رجل واحد امام المد الشيعي داخله وأن يوجهو رسالة صارمة لحزب الله لكف يد ايران المتغلغة داخله، ولكن مثل هذه القرارات الجريئة تحتاج جرأة من أعلى هرم السلطة، ولا تكتفي برسائل التهنئة في الاعياد الوطنية لدول الخليج تعبيرا عن مشاعر الاحترام والود من دون ان تقدم شيئا ملموسا على أرض الواقع يعكس تغييرا جوهريا في سياسة قصر بعبدا أمام النفوذ الايرانس داخل لبنان.
تدرك دول الخليج ان وقوع لبنان في حرب أهلية سيشعل المنطقة برمتها ويحول الشرق الأوسط الى بؤرة شديدة التوتر قابلة للإنفجار في أي لحظة، يخشى أن تتناثر شطاياها على الجميع ومن دون استثناء. وهذا الأمر الذي يؤثر بشكل كبير على مستقبل الاقتصاد والأمن بصفة عامة على كل دول المنطقة ولهذا لا يمكن أن تفتح دول الخليج صفحة جديدة في علاقاتها مع لبنان من دون أن يزول هذا الخطر والتهديد.
الى غاية اليوم لم تتراجع دول الخليج عن منعها لمواطنيها بالسفر الى لبنان وهذا ما يطرح تساؤلا آخرا فيما اذا كانت استقالة القرداحي غير كافية لعودة العلاقات أم لا...