تعدّدت مسيرات الحشود الضخمة في التاريخ، كما شكّلت مادّة للأساطير والأسطرة وثروةً للمخيّلات. فاحتشاد البشر يثير من الأحاسيس، كما من الصُوَر، ما تثيره طريق عبورهم الصعب المرصّع بألمهم. ذاك أنّ نقطة الانطلاق المشوب بالعذاب مثيرة، ومثلها محطّة النهاية حيث الخلاص المفترض، أمّا ما يقع بينهما من معاناة فباعثٌ، هو الآخر، على استلهام جامح. هكذا تبدو حركة الحشود لعديدين كما لو أنّها عيّنةٌ على التاريخ وهو ينقلب على ذاته، أو شهادة على عمل ذاك التاريخ بكامل طاقته دفعاً في هذا الاتّجاه أو ذاك.
ولا تزال قصّة موسى تأسيسيّة في ما خصّ الحشود وانتقالها الذي يتعدّى المكان إلى صناعة المعنى. فنبيّ اليهود الذي تقول الرواية الدينيّة إنّ الله اصطفاه ليقود بني إسرائيل من العبوديّة في مصر، نُسبت إليه معجزات مدهشة في نشره الطاعون والأمراض الفتّاكة وسواها، وذلك على أمل إقناع الفرعون بأن يُعتق شعبه ويتركه يغادر مصر. بعد ذاك شقّ «كليم الله» بعصاه البحر الأحمر، وعلى مدى أربعين عاماً تواصلت مسيرته على رأس قومه، بحيث انتهت به وبهم إلى حدود «أرض الميعاد» وإلى تلقّي التوراة في جبل سيناء، وتسلّمِ وعد الخالق بأن يمنح «شعبه» أرضاً ويميّزه عن سواه، شرط أن يتقيّد ذاك الشعب بأوامره ونواهيه.
وبالضبط لأنّ «العبور» قَدّم، للمرّة الأولى، مفهوماً للتاريخ يحوّل بعثرة الماضي إلى وحدة ووجهة، ساعياً إلى هدف جامع وإلى ما يشبه القانون في التعاقُب والسببيّة، لم تعد الأسفار الخمسة مجرّد تاريخ، بل تفرّدت بأن أضافت إليه فلسفة للتاريخ. هكذا رأيناها تتجاوز مرجعيّة اليونان وروما القديمتين لتصبح هي المصدر الأساس في نظر المفكّرين الأوروبيّين إلى العالم.
فبلوغ الهدف الخلاصيّ، كما أدّاه «العبور»، كان إذاً المثال الذي استوحاه كثيرون ونسجوا على منواله، من غير أن يكونوا بالضرورة دينيّين أو مؤمنين بما جاء في التوراة. وفي الزمن الحديث، تدخّلت تقنيّات في الكذب أو الدعاية، وروايات وتأويلات مؤدلجة، لإقناع العالم باشتغال فكرة العبور وتتويجه في الخلاص. ففي أواخر 1922 مثلاً، ومع «الزحف على روما»، لم يكن عدد الفاشيّين «الزاحفين» يتعدّى الثلاثين ألفاً، أمّا «المسيرة الطويلة» في الصين، خلال 1934-35، فكانت فعليّاً قصّة تراجع وانهزام أمام تقدّم قوّات الكيومنتانغ، أمّا مَن نجوا، من أصل المئة ألف شيوعيّ الذين قطعوا مسافة عشرة آلاف كيلومتر، فلم يزيدوا عن ثمانية آلاف. مع هذا لعبت «المسيرة الطويلة» دوراً مهمّاً في تسمين زعامة ماو تسي تونغ، وبالتالي استيلائه على الصين في 1949. والشيء نفسه سبق أن أنجزه «الزحف على روما»، سيّما وقد اصطكّت أسنان الملك فيكتور عمانوئيل الثالث خوفاً، فأذعن وكلّف بنيتو موسوليني تشكيل الحكومة.
وفي العقود القليلة الماضية، شهدنا حركات انتقال ضخم للحشود هي محض مآسٍ، حركاتٍ لم تكن عبوراً إلاّ إلى مزيد من المآسي، لكنّها لم تستلهم الرواية التوراتيّة المؤسّسة، ولا زوّرت نفسها بادّعاء انتصارات كاذبة. فمن بين الكرد العراقيّين في 1991، وبسبب انتقام صدّام حسين منهم ردّاً على انتفاضتهم التي أعقبت دحر الغزو العراقيّ للكويت، لجأ 750 ألفاً إلى إيران، و280 ألفاً إلى تركيّا، كما تجمّع 300 ألف على الحدود العراقيّة – التركيّة منتظرين. والكرد يومذاك لم يقولوا إنّهم انتصروا، بل انتظروا إعلان الولايات المتّحدة الشمالَ العراقيّ منطقةً محظورة على طيران صدّام. وفي 1994، وخلال مئة يوم فحسب، لجأ مليونا روانديّ إلى الخارج، كما نزح مليون ونصف المليون منهم في داخل بلدهم، وهذا فضلاً عن مقتل قرابة مليون من التوتسي ومعهم المعتدلون من الهوتّو، من أصل مجموع السكّان الذي لم يتجاوز يومذاك السبعة ملايين. والنسب المئويّة السوريّة بعد 2011 كثيراً ما تتقارب مع النسب الروانديّة، إذ دُفع أكثر من نصف مجموع السكّان إمّا إلى نزوح داخليّ أو إلى لجوء إلى الخارج، وجاء هذا معطوفاً على مقتل أكثر من نصف مليون سوريّ. وكما في حالة الكرد العراقيّين، استولى على الروانديّين والسوريّين ألم يحفر عميقاً في داخل النفس، ويكاد أن يكون بلا صوت أو لسان.
... مؤخّراً، في الجنوب اللبنانيّ، ولكنْ خصوصاً في قطاع غزّة، رأينا صُوراً تكسر القلب لحشود تعود إلى مناطق مدمّرة، أو تُمنع من العودة إلى بيوت مهدّمة. لكنْ فوق الرؤوس الكثيرة لاح ظلٌّ ثقيل لهراوة إسرائيليّة متعجرفة وعدوانيّة تقرّر عودة الحشود أو تمنعها. ذاك أنّه ما من خلاص هنا، وما من وعد، وليست هناك صناعة ناجحة في تلفيقها لخلاص أو وعد. هناك فقط صورة لمقهورين بائسين ومعدمين فقدوا كلّ شيء، يرافق سيرَهم الثقيل صوت «مُنظّمي الرحلة السعيدة» الذي يلعلع: انتصرنا.
هذا محبط. مؤسف. مؤلم. محزن. مُذلّ. داعٍ ليأس مديد.