يخطىء الكثيرون في فهم أبعاد الزيارة التي قام بها مؤخراً الرئيس السوري بشار الأسد للإمارات، والسبب الرئيسي في ذلك ـ باعتقادي ـ هو رؤيتهم للحدث من زاوية واحدة، وتحديداً من زاوية علاقة دمشق بطهران! ولكن مايغيب عن هؤلاء أن الزيارة تكتسب أهمية أكبر من هذه الزاوية الضيقة لأنها تمثل انفراجاً مهماً في علاقات سوريا الاقليمية وبداية مبشرة للغاية لكونها تأتي من بوابة الإمارات التي تمتلك إحتراماً وتقديراً إقليميًا ودولياً، فضلاً عن كونها باتت لاعباً مؤثراً من خلال عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي للفترة 22ـ ـ 2023، ما يتيح لها لعب دور حيوي في تهيئة الأجواء لبناء موقف دولي وإقليمي أكثر واقعية باتجاه سوريا وصولاً لإيجاد تسوية سياسية نهائية لهذه الأزمة، وإنهاء ـ أو على الأقل الحد من ـ التوظيف السيىء لها من جانب بعض القوى والأطراف الاقليمية.
الحقيقة التي يصعب انكارها أن هناك علاقة تحالف تاريخية قوية تربط سوريا بإيران، وأن الأخيرة تقف وراء العديد من مظاهر الفوضى والإضطرابات في منطقة الشرق الأوسط، ولكن هذا كله لا يعني تأطير أي فهم لأبعاد الزيارة وربطها بالمنظور الايراني ـ الروسي للأحداث لأسباب وإعتبارات عدة أبرزها أن المنطقة والعالم كله يشهد تغيرات جيواستراتيجية متسارعة، وقد رأينا بالأمس كيف وُضعت العلاقات الإيرانية ـ الروسية نفسها على المحك حين طلبت روسيا ضمانات من الولايات المتحدة بشأن استثناء التجارة مع إيران من العقوبات الغربية وذلك كشرط لازم قبل التوقيع على أي تفاهمات لإحياء الإتفاق النووي مع إيران، ورغم أن طهران لم تعبر عن انزعاجها علناً من الموقف الروسي، فإن هناك مؤشرات على أنها رأت فيه توظيفاً سياسياً روسياً قد يضر بالمصالح الإستراتيجية الإيرانية.
المغزى هنا أنه لا يجب التعامل مع أي معطيات سابقة على المرحلة الراهنة تحديداً باعتبارها مسلمات أو ثوابت، فالكثير من المعطيات تتغير بوتيرة متسارعة، بدفع مما يحدث في الأزمة الأوكرانية، ومن ثم يصبح المنظور الأحادي لفهم التطورات مجازفة غير محسوبة تؤدي حتماً إلى نتائج غير دقيقة، فالعلاقات الدولية كانت ولاتزال من التشابك والتعقيد بحيث يصعب رؤيتها من زاوية واحدة أو القول بأنها تمضي في مسارات متوازية لا تتقاطع، والوضع في ظل الظروف الدولية الراهنة بات أكثر تعقيداً وتشابكاً وتقاطعاً أيضاً.
ما أريد الاشارة إليه أن الجميع يدرك أن إتفاقات ابراهيم لا تستهدف أحداً في منطقتنا، وأن هدفها الأساسي ترسيخ ثقافة السلام والتعايش وتحقيق مصالح الدول والشعوب جميعها، وعلينا أن نقر بأن عودة الاستقرار لسوريا وخروج القوات الأجنبية منها مصلحة مشتركة لجميع دول المنطقة، باستثناء دولة أو اثنتين، كما أن هذه المصلحة ترتبط إرتباطاً وثيقاً بإنفتاح دمشق على دول مجلس التعاون كي تستفيد من القدرات والخبرات والإستثمارات التي يمكن لهذه الدول أن تضخها في شرايين الإقتصاد السوري، وهذا كله لا يبدو متعارضاً مع أي مواقف إقليمية ودولية أخرى، أو هكذا يفترض، لأن متطلبات مرحلة إعادة الإعمار وإستئناف التنمية في سوريا تختلف عما سبق.
لا يهمناً ـ كعرب ـ في المرحلة الراهنة سوى عودة سوريا لحاضنتها العربية، وشغل مقعدها في الجامعة العربية مجدداً، لأن هذا يعني بالتبعية إستعادة الكثير من زخم النظام الإقليمي العربي، وهو أمر في غاية الضرورة في ظل الظروف الدولية الراهنة، فضلاً عن كونه مصلحة إستراتيجية إماراتية، حيث تحتاج الدولة في رحلتها لتحقيق أهدافها التنافسية العالمية الطموحة إلى بيئة إقليمية مستقرة، وتعاون مع الجميع من دون إستثناء، ولهذا هي تسهم بقوة في بناء الجسور وردم الفجوات وتقريب وجهات النظر بين الجميع، والمسألة هنا لا تتعلق بإيصال رسائل إلى حلفاء من القوى الكبرى أو غير ذلك، بل ترتبط أساساً بالسعي نحو مصالح الإمارات وتحقيقها بما يعطي ـ أحياناً ـ إنطباعات للبعض بأن الدولة تعيد تموضعها أو تتخلى عن تحالفاتها وشراكاتها الإستراتيجية المهمة مع هذه القوة الدولية أو تلك، وهذا أمر بعيد عن الواقع، وكل ما هنالك أن المتغيرات الطارئة قد وضعت الجميع في موقف صعب وحساس، ولكنه لا يعني التقارب مع طرف على حساب مصالح أخرى مهمة قائمة بالفعل مع طرف آخر.
ما أعتقده أن رؤية الامارات الإستراتيجية تجاه سوريا رؤية عقلانية تستوعب الواقع ومتغيراته، ولا تتمسك بمواقف جامدة للتعاطي مع ظروف متغيرة في بيئة دولية أكثر تغيراً، فسوريا كانت تمتلك علاقات تحالف قوية مع إيران وروسيا في وقت كان لها دور عربي إقليمي مؤثر، وبالتالي فهي تقدر على الموائمة بين المصالح وبناء التوازنات، ولذا فإن دعم دمشق في الوقت الراهن يوفر لها القدرة على الإمساك مجدداً بزمام المبادرة في معالجة أزماتها الداخلية والتعامل مع الأطراف ذات الصلة بشكل أفضل.
الواضح للجميع أن الدبلوماسية الإماراتية توظف قوتها الناعمة وعلاقاتها الدولية في البحث عن حلول للأزمات، وهي لا تتحرك تجاه دمشق أو غيرها بشكل منفرد، وهذا التحرك أو التوجه لا يعكس ـ منذ بدايته ـ مسلكاً منفرداً بل يعبر عن وجهات نظر ورؤى عربية لم تتبلور بعد إلى موقف عربي جماعي رسمي لأسباب واعتبارات يرتبط بعضها إرتباطاً وثيقاً بالمناخ السائد في العلاقات العربية ـ العربية، بينما يرتبط بعضها الآخر بالمتغيرات الدولية والإقليمية التي تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر في مجمل الأوضاع بالمنطقة.