: آخر تحديث

عندما يستتر الضمير...

60
63
60

تعلّمنا في النحو عن الضمائر، وأنّها قد تكون متصلة أو منفصلة، بارزة أو مستترة، لكنّ الواقع أثبت أنَّه لا ضمير إلاّ المستتر في مساحة تحاول القفز فوق الجغرافيا في انعكاس صورتها، وعلى مرّ تاريخ يحاول تأليه الزعماء ويسطر المحرّمات التي تجعل من الإنسان إرادةً حُرّةً لا وجود لها، وأحلامًا لا حقيقة لها إلاّ في غياهب النسيان...


في بلد يختلط فيه اليأس بثواني العمر منذ لحظة الولادة، كيف يمكن للخير أنْ يُثمر، وللغد أنْ يؤمَل؟... كيف يُمكن للشمس أنْ تُشرق؟ فالشمس لا تزال تنتظر أنْ يصل إليها من قال بأنه طلع باتجاهها، وباتجاه الحرية على بساط الريح، التي رغم إعلانها أنها تتجه صوب الحرية والشمس، جنحت باتجاه الصقيع وسجون الجليد وإسار الرُّكون والخضوع، وغاصت بالحقيقيّ إلى أعماق سحيقة صمّاء، وجنحت بالبعض ناحية البلادة والكسل والقعود عن العمل وَسَتَرت الضمير ونهضت بالزيف على السطح...


أقوال لا ترافقها الأفعال إلاَّ في حدود التبجح والتزلّف والتمظهر؛ كالطاووس، لا فائدة له إلاّ في حدود إظهاره للريش، يتباهى به ويتبختر، ولا نغم لصوته إلاَّ في حدود ما يشكّله مِنْ إزعاج الأذن وإقلاق الهدوء... 


أقوال تستنهض شعور الاحترام والتقدير، والتعجّب من القدرة على التنفيذ والنهوض بالمهام التي تبدو شبه مستحيلة، والتساؤل حول هذا الإخلاص والأخذ بماهية الأعمال التي قد تبدو عصيّة، وكأنّ الناهض بها مجاهد يتصدّى للصعاب، ويقتحم الأهوال، ويقارع العنقاء، ويتحدّى التراخي، ويمحو التكاسل، ويسطر عهد سفرٍ جديد، سِفْر عمل وهمّة، سِفْر تماهٍ في العطاء والجنى، سِفْر جودة وَجُود، سِفْر فلاحٍ واجتهاد، سِفر لا مكان فيه للـ«أنا» فالأهمية للفريق، سِفر لا مكان فيه للتمييز ولا للتفرّد ولا للأنانية ولا للاِستغلال ولا للنفاق ولا للاِدعاء... ومع ذلك، تبقى الـ«كأنّ» في حيّز التشبيه الذي لا حقيقة له ولا ترجمة حتى في عالم المجاز... فالأقنعة ساقطة لا محالة...


 قد يقتضي الأدب أنْ يبتسم الصِدق للزيف والاجتهاد للقعود، وقد يفرضُ التعاون أنْ يحمل المُجدُّ أثقال الآخرين، وقد يدفعُ احترامُ الذاتِ إلى الامتناع عن تصويب الرؤية في عدسات المتخاذلين، وقد يحتِّم الحوار الانعطاف بعيدًا عن الطُّبول المتبجّحين، ولكنْ، متى فاضتِ الكأس فلا مجال لثنيها عن التخلّص من مدٍّ وجَبَ أنْ يكون جزْرًا، ومتى غشيت المرايا فلا مجال لتجاهل رسمٍ وجب أنْ يكون صورة، ومتى تفاقم الزيف فلا مجال للسير في قافلته والاعتكاف عن تكسير قيوده وتفنيد أطيافه...

لا يمكن للكمّ أنْ يكون هو صاحب الصوت الأعلى، ولا يمكن للاستتار أنْ يكون هو الأَوْلى، ولا يمكن للسوء أنْ يكون هو الأجدى، فالكون مبني على حكمة العمل، ونعمة الكلمة، وَجُود الفَلَاح، وَحُسن الأفعال، لتتضحَ البصمة، ويتمكّنَ الأثر، ويبرزَ العلَمُ شعاعًا يخطُّ الطريق، وقبسًا يضيئُ مظالمها، ويُزهرُ مكاحلها، ويُثمرُ مدامعها، ويحضُنُ نفائسها! 

نعم، الكون مبني على العمل، والطبيعة تلعنُ القعود وتقضي على من يخالفُ سُنَّتها، لأنَّه يتحدّاها في فحوى وجودها، إذ هي عطاء دائم ولا مكان لمن لا يعرف العطاء، وهي تجدّد دائم ولا مكان لمن يلتزم التقليد، وهي سعيٌ دائم ولا مكان لمن تناسى النجوم، وهي التكامل في اختلاف تموجاتها ولا مكان لمن لا يتقنُ الجَمْعَ، وهي الوحدة في تمايزاتها ولا مكان لمن لا يعي حيوية التماهي...

مَنْ جعل قلبَه في سيرته نبراسًا يُرشده وعقله سراجًا ينْجُده، وجد في أعماقه السكينةَ، وفي روحه الرضا، وفي ثوانيه متعةَ الإنجاز، وفي جوّانيته الصحوةَ الدائمةَ والرقيبَ والحسيبَ والعطرَ والثمرَ، ولمْ يستترْ منه الضمير...
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في