: آخر تحديث

البروفيسور بولس بجّاني

52
51
51

لا تحتاج أنْ تكون نبيًا لتجترحَ المعجزات، كان يكفي أنْ تكون دكتور بجّاني!

قد يرى البعض في العنوان كفرًا لكنَّ من عرف دكتور بجّاني سيرى فيه عين الإيمان. 
من الصعب دومًا أنْ نتحدّث عمن يحتلون في قلوبنا مكانة كبرى، فكيف بمن كان بنظرنا مخلّصًا؟ بمن كان نبع أمل لا ينضب بأنَّ الغد سيكون بلا ألم، بأننا سنستيقظ ذات صباح لنودّع آلام الشقيقة التي ترافقنا منذ الطفولة وتسرق من عمرنا الساعات والأيام؟ بمن تعدّى كونه طبيبًا ليكون صديقًا وسندًا، مارس الطب بالفعل رسالةً لا مهنةً حتى الرمق الأخير...
نعم حتى الرمق الأخير...
فقبيل وفاته بأيام اتصلت به لأسأله عن دواء بديل عن أدوية الميغران التي لم أعد قادرة على تناولها بعد إصابتي بالكورونا. أجاب وكانت إجاباته سريعة ووافية، ثم قال بأنّه لم يعد قادرًا على الكلام وأنّه في حال لم أتحسّن لأعوده في عيادته بعد أيام. اعتقدتُ أنه مستعجل كعادته لرؤية مريض، لم يخطر ببالي للحظة أنّه مصاب بكورونا، وأنّه في المستشفى، وقد أزال قناع الأوكسيجين ليجيب على اتصالي كما على اتصالات مرضى كثر اتصلوا به طلبًا لمشورة أو سؤال.
لا أعتقد أنَّ هناك طبيب آخر يفعلُ ما فعله دكتور بجّاني!
من لم يعرف دكتور بجّاني لم يعرف الإنسانية مطلقًا! 
فالإنسانية وُلدَتْ يوم ولد، والاهتمامُ ولِدَ يوم ولد، والعناية ولِدَتْ يوم وُلد! 
طبيب يُحسن الاصغاء إلى مرضاه، ولا يستخف بآلامهم التي قد يكون بعضُها بسيطًا في ما يقتضيه من علاج - ومن عادات المرء أنْ يعظِّم ما يشعر به من وجع. 
طبيب لم يفرّق بين مريضٍ قادر على سداد تكلفة العلاج وبين آخر غير قادر، لأنّ كلَّ مريض في عيادته له الأولوية، ومن لا يمتلك تكلفة العلاج، كان يعالجه على حسابه الشخصي، أو بالتعاون مع بعض الجهات المحبة لعمل الخير.
لم يحفَلْ يومًا بالدِّين أو بالمنطقة التي تأتي منها، فأنت بنظره صديق مذ يقابلك، صديقٌ يتحدَّاه الألمُ فيكَ بأنْ يُعيدَ الاستقرار إلى حركتك، أو السكون إلى آلامك. 
وفي بداية الأزمة الاقتصادية التي لا تزال تعصف بلبنان، قام على نفقته الخاصة بمساعدة عائلاتٍ من مرضاه كان يعلم يقينًا أنَّها لن تتمكّن من الصمود من دون يدٍ تُمَدُّ إليها من دون منّةٍ.
كان قريبًا من كلِّ مريض عالجه، كما لو أنَّه مريضه الوحيد. 
كم طبيبًا لمْ يرَ بمريضه الزبون بل الإنسان؟
كم طبيبًا كان سندًا من دون أنْ يُسأل؟  
كم طبيبًا أشعَرَ مريضه بأنَّه تخصصَّ بالطب من أجله فحسب؟
قد تكون عائلته خسرت بخسارته أبًا وأخًا وصديقًا، لكنَّ مرضاه هُزموا يوم هزمَته كورونا، لأنّهم فقدوا صديقًا أخًا أملاً تفاؤلاً حافزًا لمقارعة المرضِ سندًا مخلّصًا! فهو كان خطوط دفاعهم الأولى والأخيرة! 
خاضَ معنا حروبنا فنَصرَنا، وخاضَ معركَته وحيدًا فهُزمنا!
كثير يمكن أنْ يُقال عن دكتور بجّاني، لكنَّ وجع خسارته لا يزال يخنقُ الكلمات حتى بعد مرور عام على رحيله. هذا الرحيل الذي لا يرتبطُ إلاَّ بظلم الحياة وغدر كورونا... فالعدل مفقود إذْ رحلَ؛ إذْ كيف يمكن للخير أنْ يضحّي بمن لم يكن في سيرته إلاّ الخير؟ كيف يمكن للداء أنْ يضحّي بمَنْ لم يكن للأوجاع إلاّ الشفاء؟ كيف يمكن للقدر أنْ يُهدِيَه للموت وهو من يزرع الغدَ بسمةً على الشفاه؟
لعلّه كان ملاكًا لمْ يأْلَفِ العيشَ في أرضٍ تكثرُ فيها الشياطين... ملاكًا أدّى رسالته ورحل... 
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي