: آخر تحديث

جلد الأبداع

64
69
66
مواضيع ذات صلة

في تاريخنا أمراض كثيرة، وممارسات غريبة، وسلوك مزدوج، آزاء نخبنا من مبدعي الثقافة والعلم والفكر. وهو إننا نقتلهم في الحياة، ونتذكرهم بعد الموت بانتقائية حسب لون السياسة والدين والعقيدة. لقد غادرنا الكثير بصمت مع ضجيج السياسة الهوجاء، وأيديولوجيات البغض والكره والتعصب، حيث أوطان لا تقيم الحدود بين الإبداع والتخلف والأمية المعرفية. الكل سواسية، ولا فضل لمبدع على جاهل إلا بتقديم الولاء للحاكم والحزب والقبيلة والطائفة والقومية.

إذا كانت أوطان الحاكم والسياسة تقتل مبدعينا، فأن النخب الثقافية هي الأخرى مسؤولة في قتل بعضهم البعض. هناك مرض سادي يعشعش في الذات الثقافية، يتلخص؛ بوجود نرجسية مريضة تتفوق على التواضع، وداء عظمة تقتل الأحاسيس الإنسانية. فالكل لا يريد البوح بأبداع الآخر، بل الأفراط في التهميش والتشويه. لذلك لا نرى إلا القليل من المبدعين ما يكتب عن الأحياء، ونرى الكثير من الكتابة عن الأموات. شخصيا كتبت عن الكثير من المبدعين والزملاء الأحياء بقناعة دون عقدّة ولا منّة، إنما هو واجب مهني وأخلاقي. لكنني وجدت موقفا غريبا للبعض، وهو العتاب والنميمة المزعجة لأنني قلت رأيا إيجابيا عن أعمال الآخرين، حيث صرت في خانة الاتهام والمجاملة. وهو يعكس، كما أرى، مرضا من السادية الخطيرة والاضطراب النفسي في نفوسهم. وصدق الفيلسوف الفرنسي (بليز باسكال) عندما قال إن البشر "هم مجد الكون وغثاؤه وحثالته كذلك".

عندما نقرأ التاريخ الأوربي، قد نرى صورا مشابهة في الأنانية وحب الذات بين النخب الفكرية، وقتال بالكلمات والشتائم. لكن هناك الكثير من اللياقة والموضوعية واحترام الخصوصيات بشكل عام. أما عندنا فلها أشكال مختلفة؛ تنابز بالألقاب والطوائف والقوميات، وفضح الخصوصيات الشخصية، ونفاق سري في المقاهي والمنتديات، وتشريح عرضي وطولي في الشخصية الإبداعية. بل هناك خرائط للتحريض والكره بهدف الإيذاء والقتل، خاصة إذا كان الآخر من فكر آخر.

هنا اكتب على نميمة القول، والقيل والقال، وليس على الكتابات النقدية الموضوعية بين المبدعين. قد نتفق ونختلف على الأعمال الثقافية والعلمية. هناك اجتهادات ورؤى مختلفة أو متناقضة إزاء الأعمال الإبداعية، لكن هناك مقاييس أخلاقية وإبداعية ينبغي ألا ترتبط بالمزاج الشخصي، والانتقام الفكري بعقلية قيم ثأر القبيلة.   

أعرف من الواقع، هناك ممارسات خطيرة حدثت في جمعيات واتحادات تمثل مثقفي العراق حرضت على أسماء عراقية مبدعة لها ثقل عربي كبير بالقتل والتهجير وقطع الأرزاق. هي نفسها التي كانت تطبّل للنظام السابق، وتستجديه بالمقالات للحصول على المكارم. بل لم تكتفي بقطع الرزق، إنما حاولت أن تقطع فكره الثقافي وتمحيه، وتخلع عنه إبداعه في لعبة خلط الأوراق بين التحريض على المعتقد ومحو الأبداع. وقد أخطأوا في الحساب والتاريخ وعلم فسيولوجيا العقل، فالمبدع لا ينتهي ولايقتل معنويا ولا يتقاعد ابدأ! 

أعرف أيضا أن هناك إيحاءات ورسائل وصلت إلى بعض المليشيات والأحزاب الدينية تذكّرهم بتاريخ المبدعين وأفكارهم بهدف الإيذاء والتدمير وغلق منافذ الحياة. وهذا ما حدث لبعض مبدعينا الكبار الذين أكتوى بنار المنافقين، فعاش هو وعائلته بدون راتب تقاعدي يصارع الحياة، ولكن بجبروت لا يقهر!

سأكون أكثر صراحة، بأنني عشت الأزمان المختلفة، وأنواع الغربات، ووجدت بأن الشخصية العراقية، بقدر ما هي متفوقة بطيبتها، بقدر ما هي مدمرّة في سلوكها، ومزدوجة الأفعال والممارسات. فلا يعجبها العجب، إلا بنفسها وقدراتها. ولا تعترف بالآخرين إلا بحدود المصالح والتوافقات. فلا أرى مبدعا عراقيا يتحدث عن زميله الحي إلا بالسكون والضم أو بالجر والمجرور إلا بعض ما ندر!   

لدينا في العراق مدارس ثقافية وعلمية نفتخر بها، مثلما لدينا مبدعون خارقون بإنتاجهم، لكنها محجوبة عن الفعل الخارجي. هناك جلد للذات، وأنانية قاتلة، وعدم الإحساس بتفوقنا الجمعي، بل نظرة فردية مريضة مرتبطة بالجينات والتنشئة. ودونية مصابة باليأس وعدم الثقة بالنفس. هناك خلل ثقافي وتربوي بين علاقات المبدعين مع بعضهم يقلل من قيمتهم الإبداعية، ويحط من قيمتهم أمام الآخرين.

اسأل أي مبدع عراقي عن زميله المبدع الذي أصبح اسما لامعا ومرموقا في دنيا العرب، ستجد جوابا مليئا بالألغاز المموهة، والأجوبة المفتوحة الغامضة، والكلمات اللفظية التي لا معنى لها، سوى الظهور بمظهر الناقد الذي لا يقهر. بينما تسمع مبدع أخر من جنسية عربية أخرى يكيل المدح لكاتب صغير مغمور حتى يشعرك بانك تعيش في كون آخر، وزمان غير زمانك!

نعم حدثت معارك ديناصورات فكرية وسياسية وأدبية في كل الأجيال العربية، بعضها كان سلبيا حد الاشمئزاز، والآخر كان موضوعيّا وصحيّا لتحريك الجمود الفكري، وتنشيط الأفكار والحوارات من مبدأ الرأي والرأي الآخر. لكن الأخطر عندما تتحول إلى نزاعات قبلية للثأر والقتل وانتهاك الخصوصيات.

هناك من المبدعين ما زال داخل الوطن، ومنهم من هاجر إلى بلدان الأمان و"الكفر". كلاهما لهما فلسفة في البقاء والخروج. هناك في الوطن من يعيش غربة داخلية من العوز والحاجة والفقر واليأس من المستقبل، وهناك في الخارج من يتمتع بالآمان والاستقرار، لكن خزّانه خادع لا يمتلئ إلا بماء دجلة والفرات. اختيارين كلاهما مر.

لكن المشكلة مازالت باقية؛ أحساس قوي بالعظمة مازال مزروع في الذات العراقية، وغرور ثقافي مريض، واستعداء غير مبرر للآخرين يتجسد في الثَّلبُ والطعنُ والتجريح، والجفوة والخصومةُ واللَّدَد، والمنازعة والعنف والتحامل. الكل" يعتبر نفسه إمبراطورا على الحق ...فلا جرَمَ لا تردُّ كلمةٌ على كلمة إلا بحرب".

وهكذا هي حال الدنيا، وحال من غادرنا من المبدعين، وحال من بقي على قيد الحياة؛ أمزجة متنافرة بالسلوك، وممارسات خارج تغطية الفعل الإنساني، وأبداع يحتاج إلى منشطات لتقوية المناعة الأخلاقية، وعودة لضمير التواضع ونكران الذات، ومحبة بقياس قدسية الحرف والرسالة. والأهم مغادرة النرجسية التي مازالت تنهش بالانا والانا الأعلى لتدمر ما تبقى من جمال الروح والأبداع.

بالمختصر، الأبداع صفة إنسانية، ورقيّ في العقل، ورؤية متقدمة في الإدراك والفطنة وعمق الفكر. والمبدع إنسان له بصيرة تفجّر العلم والمعرفة للناس، وفراسة تستشرف المستقبل بجودة التفكير والتأمل. المبدع نبيّ في السلوك والممارسة والموضوعية والتواضع. 

كم نبيّ مبدع عندنا يرفع راية الحقيقة والمحبة والموضوعية، ويتجرد عن بيئته الملوثة بغبار داحس والغبراء!؟  


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في