: آخر تحديث

الإصلاح والتطوير عبر الحوار الوطني

58
67
59
مواضيع ذات صلة

لقد اقتضت حكمة الله (جلت قدرته وعلا شأنه) أن يكون هناك اختلاف بين الناس، حيث يقول سبحانه: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا  إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ". وهذا الاختلاف يجب أن يكون مدعاة إلى التآخي والتآلف بين بني البشر. كما أن الاختلاف سنة كونية وطبيعة بشرية، ولا يمكن جمع الناس على كلمة واحدة أو رأي واحد، لذا يقول سبحانه وتعالى: " وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ". وبالرغم من أن الاختلاف سنة كونية وطبيعة بشرية، فإن نقاط الالتقاء والتوافق كثيرة بين البشر، ولذا يجب التركيز عليها لخلق أجواء من التعاون وبناء جسور الثقة.

أثبت التاريخ قديما وحديثا أن الاختلاف بين البشر سواء على مستوى الدول أو الشعوب لا يمكن حله بالحروب أو القوة، وأن افضل الوسائل وأسلمها هو الحوار الجاد والصادق بين الأطراف المختلفة. فالحوار هو لغة الحكماء والعقلاء، ومبدأ إنساني تبني عليه الدول والشعوب منطلقاتها لحل خلافاتها ومشاكلها، وتحقيق الكثير من طموحاتها وأهدافها.

وفي وقتنا الحالي، ما أحوج الدول العربية (حكومات وشعوب) الى الحوار الوطني الجاد والصادق لمناقشة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية التي يعاني منها الجميع. وما حالة الانهيار التي تعصف بالكثير من الدول العربية، وحالة التشرذم والتآكل في دول عربية أخرى، ما هي إلا أحد تعابير الأزمة التي تمر بها الأمة العربية بأكملها، نتيجة تغول السلطات التنفيذية وسيطرتها المطلقة على مقدرات الشعوب من خلال تحجيم دور المؤسسات التشريعية والقضائية ومؤسسات المجتمع المدني، وإقصاء المعارضة، والحجر على تنوع الآراء، وتحويل البلدان العربية إلى واحات أمنية، بحيث يسخر كل شيء لحماية الأنظمة الحاكمة.

وليس من المبالغة أن نقول أن أكثر الحكومات العربية لم تستوعب التحولات التي عصفت بالعالم قبل 32 عاما، فإنهيار جدار برلين عام 1989م وإنهيار الإتحاد السوفيتي وتفككه في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم كانا حدثين عظيمين غيرا وجه العالم بشكل كبير، وعززا مبادئ الحرية والديمقراطية (أي التداول السلمي للسلطة) وحقوق الإنسان، حيث أصبحت هذه المبادئ الإنسانية عالمية، ومن حق كل الشعوب على هذه الأرض المطالبة بها. كما أن الدعم الخارجي للشعوب التي تطالب بهذه الحقوق الطبيعية لم يعد يعتبر تدخلا في الشؤون الداخلية لبلدانها. كما أن أغلب الحكومات العربية لم تقدر (أو تستوعب) التأثير الكبير الذي أحدثته ثورة الاتصالات، فقبل هذه الثورة كان باستطاعة الأنظمة الحاكمة في دول العالم الثالث معالجة الاحتجاجات بالتكتم عليها، ومعاقبة المحتجين عقابا صارما من دون أن يعلم بها أحد. ثورة الاتصالات هذه حولت العالم إلى قرية مكشوفة، وقلصت من قدرات الحكومات غير الديمقراطية على القمع والحظر والحجب، ومكنت ملايين المواطنين من رفع أصواتهم عاليا بالاحتجاج والمطالبة بتغيير الواقع السيئ الذي يعيشونه.

يعود موضوع الإصلاح والتطوير في العالم العربي إلى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، حيث فشلت أنظمة الحكم العربية (المتربعة على كراسي السلطة منذ الاستقلال في الخمسينيات من القرن المنصرم) في تحقيق أي منجزات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تذكر، ووجدت المجتمعات العربية نفسها غارقة في إشكاليات لم تحل، تعوق تطورها ومجاراتها لدول العالم الأخرى: كالنظام السياسي والاقتصادي، والعلاقة بين الدين والدولة، وحقوق الإنسان، ودور المرأة ومكانها في المجتمع، وحقوق الأقليات.

الأحداث التي تشهدها المنطقة العربية حاليا تؤكد حتمية خيار الإصلاح والتطوير الحقيقيين كوسيلة لا بديل لها لاستقرار المنطقة وتطورها وازدهارها، وتمكينها من مواجهة الاستحقاقات الهائلة التي تنتظرها على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية والتنموية، وأن على الحكام والشعوب استعادة زمام المبادرة واعتماد نهج الإصلاح والتطوير الحقيقين، أو مواجهة مخاطر وتعقيدات لا قدرة لأنظمة الحكم على تحمل تبعاتها. الإصلاح والتطوير لن يتحققا إلا بتوافر الإرادة السياسية والتوافق بين الحكومات والشعوب، ولا بد أن يطول الإصلاح والتطوير الحكومات والشعوب والمؤسسات والقيم المجتمعية، فلم يحدث أن نجحت دولة في العالم في إقامة نظام ديمقراطي ما لم تعتمد على قيم المشاركة والمحاسبة والشفافية والثواب والعقاب. كما يجب احترام الحكماء والعقلاء وأولي الرأي السديد، واشراكهم في عملية الإصلاح والتطوير.

الشعوب العربية لم تعد تتقبل الديكتاتورية لأنها تعطل الإمكانات الهائلة للمجتمعات العربية، وتحرم الناس من المشاركة الفعالة، والدول من الإصلاح الجاد. إن تجارب أنظمة الحكم العربية السابقة والحالية في ظل غياب المشاركة الشعبية الحقيقية لم تؤدي إلا إلى التراجع والانزواء، وإن الصورة العامة للعالم العربي في وقتنا الحاضر هي صورة لعالم يبحث عن الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية كما يبحث عن الهوية والتكافل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي