: آخر تحديث

صناعة مسلم معتدل

71
61
61
مواضيع ذات صلة

هناك مقولة شائعة كثيراً ما يرددها المحافظون دينياً، وهي(من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه)، وأنا أقول من كان منعزلاً مكتفياً بالقرآن لوحده وكتب المذهب الذي هو عليه(كصحيح البخاري ومسلم عند السنة أو الكافي عند الشيعة أو مسند الربيع بن حبيب عند الإباضية) ولا يتتلمذ سوى على أيدي من يوافقون منهجه ومعتقده، ستكون نظرته قاصرة، يعتقد بامتلاكه الحقيقة المطلقة، الله والرسول والحياة الدنيا والآخرة لهم لوحدهم ولا مكان لغيرهم، منغلق لا يقبل الحوار بحجة أنه يخشى على نفسه الفتنة، ويستدلون في هذا بأن السلف كانوا يغلقون آذانهم إذا مروا بأحد مجالس المخالفين لكي لا يسمع الكلمة فيفتتن وينحرف عن الحق، وإن ثبت ذلك بأن السلف كانوا يفعلون هذا فإن هذا السلوك ما هو إلا دلالة على بلوغ التعصب أعلى درجاته وقد يكون علامة اضطراب نفسي حتى وإن صدر من كبار العلماء، فالمرض النفسي الجميع عرضة له سواءً كان عالماً أم جاهلاً مؤمناً أم ملحداً. 

لو سألت أي عالم تقليدي من كبار العلماء في الدول الإسلامية عن نظرية التطور ونظرية الانفجار العظيم، بل لو سألتهم فقط عن أهم مباحث الفلسفة(نظرية المعرفة) في الغالب لن تجد جواباً لأنهم لا يرون لها أي أهمية وهي عندهم بمثابة العلم الذي لا ينفع!

هل يمكن لأمثال هؤلاء أن يصنعوا حضارة؟ يبنوا مجداً؟ يخدموا البشرية ويساهموا في المعرفة النظرية أو التطبيقية؟

لذا من الطبيعي ألَّا يكون لهم أي فائدة، بل حتى بحوثهم الدينية لن تكون ذات قيمة لأنها أحادية الفهم والاتجاه ولا تحوي سوى نصوص دينية مكررة لا روح فيها ولا إبداع أو تجديد، يكتبها أشخاص منعزلين ومنكفئين على أنفسهم، مع أن القرآن الكريم أوصى بالبحث والتدبر والتأمل والانفتاح على الآخر ورؤية مالديه(قل سيروا في الأرض)، (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم)، (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا). 

نحنُ بحاجة إلى حراك ثقافي ديني تجديدي متنوع على غرار ما كان في تاريخنا العربي الإسلامي، على سبيل المثال مدرسة(إخوان الصفاء وخلّان الوفاء) التي أحيت القلوب وأشعلت الأرواح وخلقت بيئة معرفية متحركة وأنشطة متعددة، والتي كان سبب ظهورها وغيرها من الحركات التجديدية هو التراجع نحو الخلف بسبب سيادة الرأي الواحد ورفض الآخر، لذا كان إخوان الصفاء يرون أن الحل يكمن في اجتماع الفلسفة والدين، وقد سعوا جاهدين إلى التوفيق بينهما، وأن ذلك المنهج هو السبيل للتخلص من التعصب الديني، فكانت الأمة العربية والإسلامية حينها منارة علمية روحية تدب فيها الحياة والحضارة بشقيها المادي والمعنوي. هذهِ الأرض تسع الجميع، وروعة الحياة وجمالها يكمن في التنوع والاختلاف والحوار والتفاعل مع الاخر والانفتاح تجاهه. 

عندما تنتشر الحلقات الفلسفية والندوات والمجالس والأنشطة الأدبية الثقافية، ويُسمح للجميع بأن يطرح ما لديه، فيأتي مثلاً من يشرح نظرية الفيض عند الفارابي، أو وحدة الوجود عند محيي الدين بن عربي، ويأتي الآخر ويقدم فهم معاصر للمدرسة الأشعرية، وهكذا تسود في المجتمع لغة التعايش والالتقاء والحوار بين كافة المدارس والمذاهب الدينية والفلسفية، وهذهِ المذاهب والمدارس والاتجاهات الدينية جميعها تُعد جزء أصيل وفاعل في تاريخ الإسلام، وليس فيهم منحرف أو ضال أو مبتدع طالما أن الجميع يمتلك الدليل الشرعي من القرآن أو لديه الحجج العقلية المنطقية. 

وهنا أود أن أذكر شخصية تمكَّنت لوحدها من مواجهة تيار كامل كانت له الساحة ولا ينازعه فيها أحد، وهو عالم سعودي معاصر ومن الذين برزوا في وسط ديني سلفي واستطاع أن يختط طريقاً آخر، هو الشيخ أبو عبدالرحمن محمد بن عمر بن عقيل الظاهري(الظاهري هنا نسبةً للمدرسة الظاهرية التي إمامها ابن حزم رحمه الله). وبسبب انتماء ابن عقيل لهذه المدرسة أو المذهب فإنه قد عانى وتعرض لهجوم من أتباع المدرسة السلفية، رغم أن المذهب الظاهري ليس سوى رؤية فكرية فقهية وهو جزء من المذهب السني ويبقى في محيطه، ورغم ذلك فإنه استطاع الانتصار والدفاع عن وجهة نظره بالدليل الشرعي والعقلي، وقدَّم بحوثاً ومؤلفات دينية وأدبية وفلسفية ذات قيمة عالية، فحظي بتقدير المجتمع والقيادة وتم تكريمه ومنحه وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى. 

لابد من تطعيم المناهج الدينية في تعليمنا بتلك المذاهب والمدارس الدينية المختلفة، لابد من استعراض المدارس الدينية التاريخية خصوصاً تلك التي تستند على النزعة العقلية(المعتزلة) والصوفية(منهج محيي الدين بن عربي)، ويتم دراسة أهم الشخصيات الدينية من كافة المذاهب والاتجاهات، لنصنع بذلك شخصية مسلمة متزنة  بروح ليبرالية، يفهم ذاته ويفهم الآخر، تخف نزعة التطرف والغلو وربما تتلاشى وتختفي، ويصل الجميع إلى إدراك حقيقة واحدة وهي أنه لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، الجميع مجتهد وله أدلته، الجميع يسير نحو المقصود الأعظم الذي أراد أن نكون مختلفين لنتعايش لا لنتصارع ونتقاتل.

العقل المسلم دُجِّن لسنوات طِوال على نصوص دينية متعددة، منها: في آخر الزمان القابض على دينه كالقابض على الجمر، في آخر الزمان ينطق الرويبضة...إلخ، فعندما تجرؤ على محاولة تغيير مفاهيم وأفكار مغلوطة سيكون تصنيفك جاهزاً، لن يحسنوا الظن بك، سيتهمونك بالنفاق أو أن الشيطان استحوذ عليك أو بالبحث عن الشهرة أو الخيانة للدين والانسلاخ عن الهوية الإسلامية، من هنا كان لزاماً إعادة فهمنا للتراث الديني ومراجعته ويجب ألَّا نخجل من ذلك لأن الأنبياء عليهم السلام والصحابة رضوان الله عليهم والتابعين والعلماء كانوا يقومون بتلك المهمة لأن الدين يحتاجها كلما تقدم الزمان وطرأت مستجدات لها أبعاد دينية. 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في