: آخر تحديث

الإرث الفقهي والإخلال بمبادئ العدالة، قضية الفنان وخطيب الجمعة مثالاً

107
102
104

تعتبر فلسفة العدل نبراساً يضيئ الظلمات في حياة الشعوب ، وإذا دخلت فيه الأهواء تحول إلي ظلام دامس ، وتُصبح فيه الأحكام القضائية أسلحة خفية ، مهمتها الأولى إغتيال حقوق الآخرين ، وليس تحقيق العدالة .

كشف قرار محكمة الاستئناف عن المستور في قضية المجني عليه الممثل الشهير والجاني خطيب الجمعة في قضية التكفير ،فحسب حكمهم يعتبر الحكم الصادر ضدّ خطيب الجمعة في غير محله لصلاح المدعى عليه واستقامته ودعوته إلى الله؛.

وأن الجزاء الصادر بحق المدعى عليه في غير محله؛ لكون المدعي فناناً يقوم بأدوار متعدده ، وتدخل حسب إعتقادهم في المعاصي و فساد المرء ، وعليه يستحق حكم التكفير الصادر عليه من قبل رجل الدين حسب ما تم تداوله إعلامياً ، وليس له حق في دعواه ضد الخطيب..

بعد معاناة طويلة مع الخطاب الديني توصل الفهم الإنساني للتعاليم الربانية إلي مستويات متقدمة في مختلف المجتمعات المتحضرة ، جوهرها مبدأ المساواة تحت مظلة القانون ، فكل الناس سواسية أمام القانون ، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة عنه دون أية تفرقة، كما أن لهم الحق جميعا في حماية متساوية ضد أي تميز يخل بهذا الإعلان وضد أي تحريض على تمييز كهذا.

لهذا لا يمكن أن تقبل العقول المتحضرة في هذا العصر بدونية حقوق مواطن لعلة أنه فاسد سلوكياً حسب رأي القاضي ، أو لأنه لا يدخل في منظومة الصلاح الضيقة ، والتي أصبحت لباساً له مقاسات خاصة ، وتنطبق عليه شروط محددة ، وإذا لم يستوفيها تسقط حقوقه .

عندما يُسقط قاض حقوق مواطن حسب إعتقاده ، ويبرر جنحة الجاني لعلة أنه صالح حسب إعتقاده ، فذلك هو الميول والإنحياز الذي تسقط فيه إمتحانه منظومة العدل ، وعادة تكون تبعاتها كارثية ، وتنذر بإختلال موازيين الإنصاف في المجتمع .

نحن نعيش أمام مفارقة حضارية نادرة ، فالمجتمع لم يعد يرى في الفن فساداً مطلقاً، بل أصبح يتفاعل إيجابياِ مع نجوم الرسم والتمثيل والغناء ، وأصبح يقدر المواهب التي تبدع في هذا المجالات ، بل أصبحوا يشكلون ظاهرة حضارية للوطن بين الشعوب ، وفي هذا العصر تحول رموز الفن والأدب والثقافة إلي أشبه بالقوة الناعمة للأوطان.

في إتجاه آخر في المجتمع ، لازالت مرجعيات العدالة تنظر إلي هؤلاء على أنهم مذنبون ويرتكبون الآثام ويمثلون القدوة السيئة في المجتمع ، ولهذه العلة في الحكم المسبق ، تسقط حقوقهم ، إذا كانت مواجهتهم مع الرجال الصالحين ، أو أولئك الذي يعتقدون أنهم رجال الله عز وجل على أرض الوطن.

نحن ضحايا إجتهادات فقهية موروثة لا تتوافق مع مبدأ المساواة أمام القانون ، فبعض الفقهاء في كتب التراث اشترطوا العدالة في الشهود ، والعدالة تعني عندهم فقط أنماط محددة ، فعلى سبيل المثال من أظهر كبيرة كجر الثوب ، أو معصية كحلق اللحية لا تُقبل شهادته .

كان بعضهم لا يقبل شهادة عاري الرأس مثلا، وذكر ذلك بعض الفقهاء ، لكن المفارقة أنه في بلاد الأندلس كانوا يقبلون شهادة عاري الرأس: لأن كثيرا من الناس كانوا يمشون عراة الرؤوس، ربما لأنهم تأثروا بمخالطة الأسبان في ذلك الوقت، فأصبحت هذه القضية لا تقدح في عدالة الشاهد أو مروءته ، وهو ما يدل أن مبدأ العدالة في كتب التراث كانت تحكمه التقاليد والأعراف.

كذلك يواجه مربوا الطيور الذين يجدون متعتهم في تربية الحمام والبلابل وضع إقصائي ، فشهادة مربي الحمام أمام القضاء غير جائزة، وقال بعضهم «إن شهادة مربي الحمام مرفوضة شرعا؛ لأن اللعب بهذا الطائر كان من فعل قوم لوط، إضافة إلى أن القائم على هذه المهنة يعتلي أسطح المنازل ويكشف عورات البيوت».

من عجائب الأرث الفقهي في قضية العدالة أن المالكية والشافعية والحنابلة كانوا يرون أن أصحاب المهن الدنيئة مثل الجزّار لا تقبل شهادتهم، وفصل المالكية, فقالوا:إن امتهنها اضطراراً فلا تمنع قبول شهادته، وإن امتهنها اختياراً فإنها تمنع ، وإذا كان الأمر كذلك فمن سيعمل كجزار في مجتمع يلغي حقوقه وإنسانيته.

برغم من التطور الكبير الذي طرأ على الإجتهاد في فهم النص الديني ، لا زلنا ندور في نفس تلك الدائرة ، والتي كلما خرجنا من أزمة نقع في آخري ، فالمرجعية الفقهية تجاوزت إقصاءها لمربي الطيور وحليقي اللحى ، وأصبح الإعلام والفن بكل إتجاهاته الثقافية والغنائية والمسرحية والتلفزيونية أصحاب المهن الدنيئة ، الذين لا يستحقون مبدأ المساواة أمام القانون .

تجاوز الأمر حق الشهادة إلي تجريدهم من حقوقهم المكفولة ، لفساد سلوكهم لسبب أنهم مغنون أو ممثلون ، وهو أمر لا يتوافق مع الرؤية الشمولية لمستقبل هذا الوطن ، و لكن هل سنتجاوز مثل هذه التجاوزات في قضايا الحقوق في المرحلة القادمة ؟ أم نستمر في السير في إتجاهين متضادين !.

لابد لنا من خيار في هذا الزمن الصعب ، وهو إما أن نسير مع الأمم المتحضرة في الفهم العصري لمفاهيم العدل والمساواة القانونية ، أو نظل نختصم في أمور أصبحت من مسلمات العصر ، فلا طبقية في مفهوم العدالة ، وهي بكل تجرد تعني أن يتساوى البشر أمام القانون ، مهما أختلفوا في أعمالهم أو سلوكهم أو هيئاتهم أو ألوانهم أو أنسابهم أو أفكارهم ، والله ولي التوفيق.
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي