في ظل الوضع العراقي الغريب الاطوار بكل مآسيه وتغريبه واسوداده وفوضاه التي فاقت الانفلات بأشواط بعيدة بحيث حلّ اكثر من ديكتاتور هنا وهناك وكلٌ يقول انا السيد الأوحد وانا ظل الله وناصره وانا السيد الرأس وبيدي صولجان العرش الاعلى ، اينما تذهب ترى دكتاتورا أرعن يقود مليشيا او يمتطي تيارا او يعتلي ظهر حزب غارق في الاثنية والعمى لايبصر سوى منافعه لايعرف شيئا عن الديمقراطية الاّ في همهمات لسانه وتهويمات عقله .
هنا في بلادي بعد ان سُدّت كل منافذ الحل والخلاص يتطلع جموع من ابناء شعبي ممن اصابه اليأس والاحباط بسبب انقطاع حبل الامل الذين استمسكوا به وهماً وخديعة تماما مثلما كان فولتير يؤمن بان الاستبداد المنير كما كان يسميه قد يكون بارقة وضوءا كاشفا للخلاص من هوّة ظلماء حشر فيها الناس حشرا في كيِّ جهنم كان يسمى وطنا وملاذا .
قد يكون فولتير محقا ورأيه عين الصواب حينما يفقد ثقته بالديمقراطية ويهجسها انها تشيع البذاءات والحماقات والسوءات اذا مسك زمامها معتوهو السياسية والغوغاء وأخلاط الاثنيين والموتورين والنرجسيين من رعاة ترويج الدين والعرق من ضيقي الافق الذين لايتطلعون الى آفاق الحداثة والتنوير ومدارج التقدم والنهوض
وهل اكثر حزّا للنفوس عندما ارى قطاعات واسعة من الشعب في بلادي ومنهم مثقفون يشتدّ فيهم الحنين الى دكتاتور يطمحون فيه عدلا وكأن اربعة عقود من الدكتاتورية لم تكن كافية لتنتج لنا هذا الحال والمآل الذي لم كي يتخلصوا من هذا الوضع الكارثي الذي لم يعد يطاق حتى دبّ فيهم الامل والاستنجاد بدكتاتور منقذ عادل ومستنير وفق تصوّرهم .
وقديما صرخ الاغريق ، كل الاغريق بملء افواههم حينما عاثت الكليبتوقراطية " لصوص السياسة " ببلادهم فسادا ونهباً وهم الذين اسسوا الديمقراطية مرتعا جميلا للحياة السياسية والاجتماعية وتمنّوا مرغمين حتى أسافل القوم وأكثرهم وحشية وهمجية كي يحكموهموذلك في صرختهم المدوية : " تعالوا أيها البرابرة الأوغاد الأسافل ؛ فلتنقذونا من هؤلاء اللصوص الماكرين "
حقا كانت دعوة ونداء الاغريق صائبة فلابد من منقذ يجئ لينتشل الملأ المنهك في بلاد غرقت بفوضى النهب والانفلات ، وشرّ الزمان حينما يجتمع الرعاة والراعي على شرعنة المفاسد والتلذذ بالسرقة واعتبارها حنكة وجرأة وبطولة مثلما يحدث الان في بلادي التي يتوزعها الدنيء والبذيء والجاهل والسافل وترخص فيها الضمائر وتتدنى السرائر وانعدام الحياء وتفاقم الرياء وشيوع الجرائم المنظمة ( الخطف والقتل والابتزاز المالي والسطو المسلح وقطاع الطرق والتحايل العشائري بقصد دفع الديّات والفصل --- الخ مما لايحصى من اساليب دنيئة وماكرة للاستحواذ على اموال الناس بطرائق غريبة ومفزعة لم نألفها قبلا حتى في أعتى الدكتاتوريات التي عشناها عقودا طويلة ) .
ومن البداهة اذا اردت ان تطيح بوطنٍ وتعيقه فما عليك الاّ ان تثقله بالحروب الداخلية والديون معا مع ضياع الامل بالخلاص وفي هذا الحال المزري يبدأ التعلّق بمنقذ ولو كان وهماً وربما عدوّاً اخر أخفّ وطأةً لعلنا نجد مستبدّا مستنيراً بدلا من حلكة الظلام الدامس الطاغية فينا وفق منطق " حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض " .
هل كان لزاما علينا ان نستجير بالطغاة والدكتاتورية والعساكر المنفوخين بالبطولة الزائفة لنتخلص من لصوص السياسة الذين افرغوا بلادي من كل ثرواتها وجعلوها تستجدي ديونا مرهقة ستثقل كاهلها أمدا قد يطول حتى ينوش الاجيال اللاحقة ؟؟
انا عن نفسي أجيب بملء فمي : نعم فالرمضاء أهون كثيرا من النار التي نكتوي بسعيرها الان ؛ واحيانا لابد لنا من طغاة حتى نبرر حاجاتنا التوّاقة الى الحرية ، حرية الخلاص المؤقت من اللصوص والساسة الرعاع .
فما الذي يعمله شعب مثل شعب العراق تظاهر سنوات واحتجّ واعتصم دون ان يلمس ايّ تغيير او اصلاح او تحريك الى الامام حتى ولو قيد أنملة سوى ان يلوذ بما يتخيله منقذا وناجيا ونوحا عاصما من فيضان الدماء واتساع الموت وانتشار اجواء الكراهيات المذهبية والعرقية بكل روائحها المقيتة ، ومن يوقف الفوضى العريضة والانفلات على القانون الذي يداس الان بالأحذية سوى حاكم جائر يمارس دكتاتوريته بكل ما أوتي من قوة ليسلّط سيفه وسوطه على رقاب وظهور تلك الشرائح الكبيرة في مجتمعنا المنفلت .
نحن الان نؤجل طموحاتنا من اجل مجتمع مدني متحضر ونظام حكم ديمقراطي فهذا المسعى بعيد المنال حاليا في بلادي ( لانريد عنبا ؛ نريد سلّتنا ) ، وكل مانصبو اليه في مرحلتنا الحالية عودة دكتاتور سليط اليد واللسان ، قويّ الشكيمة ولا يتورع من بسط قوته وقانونه مهما كان بالغ الصلافة ؛ فقد بلغت القلوبُ الحناجرَ من اشتداد الاسى والقهر والغضب الكامن في النفوس والبائن في الوجوه حتى بدأت تحنّ الى منقذ كيفما يكون .
رحبا وسعة بك ايها الدكتاتور ، فمتى تجئ الينا بعصاك الغليظة ؟؟