: آخر تحديث

رؤية أثمرت نوبل «السعودية»

2
2
2

حين فاز العالم عمر ياغي بجائزة نوبل للكيمياء لعام 2025، لم يكن الحدث مجرد تتويجٍ شخصي لعالِم بارز، بل لحظة رمزية في مسارٍ وطنيٍّ أكبر. لحظة أكّدت أنَّ السعودية دخلت فعلياً عصر رعاية وصناعة الإبداع والابتكار، وأنَّ رهانها على المعرفة بدأ يؤتي ثماره.

فمنذ صدور القرار الملكي عام 2021 بفتح باب تجنيس الكفاءات، لم تكن المملكة تبحث عن أسماء لتدعيم صورتها كما كان يقال، بل عن عقول قادرة على الإضافة النوعية. كانت الخطوة امتداداً طبيعياً لـ«رؤية 2030» التي جعلت من الإنسان محورها الأول. فالرؤية لا تتحدّث عن التنمية الاقتصادية فقط، بل عن خلق بيئة معرفية تنافسية، تُنتج العلم وتُكرّس الابتكار وتمنح العالِم مكانه في المجتمع.

في هذا الإطار، جاء فوز عمر ياغي ليعبّر عن نضوج هذا التحول. فالعالم الذي أسّس علم المواد المسامية الحديثة، وجد في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية (kacst) البيئة التي طالما بحث عنها: مختبرات مجهزة، تمويل مستقر، شراكات دولية، وفوق ذلك إرادة سياسية تعتبر البحث العلمي جزءاً من مشروع الدولة الحديثة ورؤيتها الطموحة.

بعد إعلان الجائزة، وجّه ياغي رسالة مؤثرة شكر فيها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بوصفه الرئيس الأعلى لمنظومة البحث والتطوير والابتكار، مؤكداً أنَّ الدعم الذي وجده في السعودية «صنع الفارق» في رحلته العلمية. كما عبّر عن امتنانه لمدينة الملك عبد العزيز التي وصفها بأنَّها «بيئة تصنع الثقة وتزرع الطموح». كلماته كانت شهادة عالمٍ عاش التجربة من الداخل، ورأى بأمّ عينيه أنَّ الرياض لم تعد مدينةً تتابع العلم من بعيد، بل تصنعه عن قرب.

لكن ما يميز هذا الإنجاز أنه لم يأتِ من فراغ. فخلف ياغي هناك جيلٌ سعوديٌّ صاعدٌ يعيش في مناخ تنافسي لم يكن متاحاً قبل عقد واحد. ففي عام 2025 وحده، حقّق طلاب السعودية 23 جائزة دولية في معرض «آيسف» العالمي للعلوم والهندسة، منها 14 جائزة كبرى. كما فاز فريق المملكة في الأولمبياد الدولي للرياضيات بـ6 ميداليات وشهادات تقدير. وحقّق طلاب برنامج موهبة ووزارة التعليم سبع جوائز في مسابقات دولية في مجالات الذكاء الاصطناعي والروبوت والفيزياء.

هذه الإنجازات المتكررة لا تُمثّل حوادث منفصلة، بل تعبير عن سياسة متكاملة. الدولة لا تراهن فقط على الكفاءات العالمية التي تستقطبها، بل على الجيل القادم الذي تُعدّه. إن استقطاب العقول من الخارج هو استثمار في الداخل؛ في الأجيال السعودية التي ترى في هؤلاء العلماء قدوةً واقعية، وفي بيئتها المحلية فضاءً للإنجاز لا للهجرة.

التحول الحقيقي في السعودية اليوم ليس في بناء الأبراج أو المدن الجديدة، بل في بناء الإنسان المنتج للمعرفة. وهذا ما تنص عليه وثائق «رؤية 2030» بوضوح: «نسعى إلى مجتمعٍ حيويٍّ واقتصادٍ مزدهرٍ ووطنٍ طموح، يهيئ لأبنائه فرص الإبداع والابتكار». هذه ليست جملة دعائية، بل التزام استراتيجي تُترجمه الأفعال.

فمن مشروع نيوم إلى كاكست إلى الجامعات الناشئة ومراكز الذكاء الاصطناعي، يتشكل نظامٌ وطني جديد للمعرفة. نظام لا يكتفي بتعليم الأجيال، بل يُدرّبها على التفكير المستقل، على طرح الأسئلة لا حفظ الإجابات. في مثل هذه البيئة يولد الإبداع، وتُصنع الجوائز، وتتحول الطموحات الفردية إلى مشاريع وطنية.

فوز عمر ياغي بـ«نوبل» هو النتيجة الحتمية لهذا التراكم للمعرفة والزخم بالإبداع. لم يكن مصادفة، ولم يكن استثناءً. بل كان التعبير الأوضح عن نجاح سياسةٍ علميةٍ تخطت مرحلة الدعم النظري إلى التنفيذ العملي. وهو في الوقت ذاته رسالة إلى الخارج بأنَّ السعودية أصبحت شريكاً حقيقياً في إنتاج المعرفة العالمية، لا مجرد مستهلكٍ لها.

إنَّ التحولات الكبرى لا تُقاس بعدد الجوائز، بل بنوعية البيئة التي تنتجها. واليوم، تتشكّل في السعودية بيئةٌ مختلفة: بيئة تكرّم الجهد لا الاسم، تفتح الطريق للموهوبين لا للواجهات، وتؤمن بأن الكفاءة هي الجنسية الأصدق. في هذا المعنى، يصبح تجنيس العلماء ليس استقطاباً رمزياً، بل تأسيس لثقافة جديدة، ترى في العلم خدمة وطنية.

هذه التحولات العميقة هي التي تفسّر لماذا جاءت «نوبل» من الرياض هذه المرة. لأنَّ البيئة تغيّرت، والعقل أصبح في مركز القرار، والسياسة باتت تؤمن بأنَّ المعرفة هي ركيزة الاستقرار والهيبة الدولية.

اليوم لا تُقاس قيمة السعودية بما تملكه من النفط أو البنية التحتية، بل بما تُنجزه عقولها. فكل مختبر يُضاء في جامعة، وكل جائزة تُرفع باسم شاب سعودي، دليل على أنَّ التحول لم يعد وعداً، بل أصبح واقعاً. فوز ياغي بـ«نوبل» ليس نهاية القصة، بل بدايتها. إنه إعلان عن ميلاد مرحلة جديدة ترى في الإنسان محرك التنمية، وفي المعرفة قاعدة السيادة، وفي الإبداع عنوان الهوية.

هذه هي السعودية المتجددة بلدٌ لا يكتفي بأن يحلم، بل يُحوّل الحلم إلى واقع. بلدٌ لم يعد يستورد الإلهام، بل أصبح يُصدّره بثقة. وبين «نوبل» التي وُلدت في مختبرٍ بالرياض، ومئات الجوائز التي يحصدها طلابها في العالم، تتشكل ملامح وطنٍ جديد يؤمن بأن المجد لا يُشترى، بل يُصنع فكرةً بعد فكرة، وإنجازاً بعد آخر.

رسالة السعودية للعالم جاءت واضحة من دون ضجيج: لم نبحث عن مجدٍ جاهز، بل صنعنا بيئةً تُثمر منجزاته. «نوبل» لم تكن نهاية الطريق، بل بدايته، والدليل على أن الرؤية التي أنبتتها قادرة على صناعة ما هو أبعد منها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد