: آخر تحديث

دقت ساعة السلام... فليكن للألم ثمنه

3
2
3

بعض الأفكارِ العظيمةِ فَقدت بالاعتياد قدرتَها على لفت النظر، وفقدنا نحن من ثمّ قدرتَنا على التَّمعّن فيها والاستفادة منها. وإحدى تلك الأفكار فكرة نيتشه عن الوعي، كونه «سطح البحر الذي يعكس الأشياء، لا العمق الذي يخلقها». يقصد أنَّ وعيَنا بالأشياء والمفاهيم لا يعبّر بالضرورة عن حقيقتها، بل هو انعكاس لأفكار غُرست فينا في سعينا إلى بناء التفاهم داخل «القطيع البشري». وهي حاجة مهمة بلا شك، بشرط أن نتذكر امتحان أفكارنا بين حين وآخر، وإلا أصابنا الجمود، وصار السطح الذي يعكس رؤيتنا راكداً كبركة مغطّاة بطحلبها الأخضر.

من تجليات هذا الوعي المركّب نظرتنا إلى السلام والحرب. السلام هو الحالة الأصلية، والطابق الأرضي الذي تبدأ منه الحياة الإنسانية وتتمنَّى أن تستمر عليه. أمَّا الحرب فحالٌ طارئة، نلجأ إليها إما دفاعاً عن نطاقنا، أو بحثاً عن موارد لحياتنا.

في ظرف مثالي تتوافر فيه حاجاتنا الأساسية، من الحمق أن نلجأ إلى الحرب. ورغم ذلك، وبسبب ما شكله الإنسان من وعي، نشأت في بعض المجتمعات فكرة أن الحرب جيدة في حد ذاتها: رومانسية، بطولية، أو مستحقة للسعي، وأن المجتمعات تكتسب لحياتها معنى بدوام النضال، وإلا صارت في مرتبة أدنى.

ولأنَّ هذا يناقض الرغبة الطبيعية لدى الإنسان، استلزم بناء الوعي هنا اختلاق أسباب تجمّل المأساة: أحياناً فرض ديني كما في الحروب المقدسة، وأحياناً للتبشير بفكرة سياسية أو منظومة أخلاقية كما في التوسع الثوري، وأحياناً لتخليد فخر وطني كما في نهايات العصر البرونزي.

وترسّخ هذا الوعي بمنح المقاتل أفضلية على غيره، وتحقير الانشغال بالحياة اليومية، وذلك بغضّ النظر عن عدالة القضية. انتُزعت نصوص دينية من سياقها الزمني، ونُظمت أشعار، وانتشرت ألقاب ومقولات استقرت في العقول إلى الحدّ الذي صرنا فيه نصفق آلياً للحرب، بينما نقدّم الأعذارَ ونطلب الفتاوى للسلام. تحوّل الاستثناء إلى قاعدة، والطبيعي إلى أمر يحتاج إلى تبرير.

الكارثة الكبرى أنَّ الاصطفاف إلى جانب «المقاتلين الأبطال» لم يعد مكلفاً. لا يستوجب أن تحمل سلاحاً في غمد، وروحك في الغمد الآخر، وتذهب إلى الحرب. لا يستلزم منك مشاركة الضحايا المحتملين مخاوفهم وآلامهم وخساراتهم. كل ما يستلزمه أن تكتب كلمتين من هاتفك وأنت تتمشَّى في حديقة، أو تجلس في مقهى، أو تشاهد مباراة كرة. بل وصل التبجّح ببعض هؤلاء إلى تحقير الضحايا إن صرخوا ألماً.

الحرب خبرة إنسانية لا يؤتمن عليها المعاتيه، ليس بسبب مآسيها المباشرة فحسب، وإنَّما لأنَّها تبدأ دورة ثأر لا تنكسر إلا بعد أن يتجرَّع الإنسان من الألم ما يشبعه ويتخمه ويحيط به، فلا يجد سوى السلم مهرباً. ونستون تشرشل، الذي خبر الحرب أكثرَ من معاصريه، استخلص هذا في قوله:

«الناس لا يتعلَّمون من الألم إلا عندما يكتشفون أنْ لا طريقة لتجنّبه».

هذه المقولة تفسر سبب تأخر تقديرنا للرئيس أنور السادات. بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول)، نجح بعضهم في خلق وعي أوهم الجموع بإمكانية مداواة ألم الحرب بمزيد من الحرب.

على الجانب المقابل، كان أبرز ملامح ذكاء هذا الرجل أنَّه ضرب على الحديد وهو ساخن، استخدم لحظة الألم والصدمة لكي يدعوَ إلى السلام، فحاز تأييد من اكتوى بالحرب على الجانبين، وخسر دعم أصحابِ الخطابة والشعارات. وربَّما لو أطاعهم وانتظر حتى تعاظم الألم، لترجّته الجموع أن ينجز السلام فوراً. هذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، حين دفع الألم الفظيع إلى السلام لا إلى الثأر.

في الظرف الراهن، في عزّ الألم، وقبل أن تمحوَه إنزيمات الوعي الملعوب فيه بالخطابة والشعارات، نحتاج إلى قيادة حكيمة، لا تدع الألم يذهب سدى، بل تقول: هذا وقت السلام. دُقّوا أجراسه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد