علي عبيد الهاملي
في قراءة للمشهد بعد الاتفاق المرحلي الذي تم التوصل إليه لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة «حماس» ضمن المرحلة الأولى من «خطة ترامب» المكونة من 20 بنداً، تبدو الصورة أكثر التباساً، فبين تصريحات خليل الحية، الذي تحدث عن نصر سياسي وميداني تحقق للحركة، وتصريحات بنيامين نتانياهو، الذي أعلن أن إسرائيل أنجزت أهدافها وحققت انتصاراً كاملاً، يتأرجح المشهد بين روايتين متناقضتين، كأننا أمام مسرحية تتبدل فيها الأدوار، لكن الجمهور واحد، وهو الشعب الفلسطيني الذي دفع، كالعادة، الفاتورة الأغلى من دمائه وبيوته ومستشفياته ومدارسه وكل أسباب حياته.
خليل الحية ظهر في خطابه يحاول أن يقنع جمهوره بأن ما جرى كان انتصاراً للمقاومة، وأن الحركة خاضت المعركة بمسؤولية وطنية، وتسلمت ضمانات دولية بانتهاء الحرب وفتح المعابر ودخول المساعدات. أراد أن يقول إن ما تحقق على طاولة المفاوضات لم يكن إلا ثمرة لصمود «حماس» في الميدان.
لكن الخطاب، على ما فيه من ثقة ظاهرة، يخفي خلفه مرارة الواقع. فغزة المهدمة، وآلاف القتلى، وملايين المنكوبين، لا يمكن أن تختزل في كلمة «نصر». والذين تابعوا يوميات الحرب يعرفون أن الحركة لم تصل إلى هذا الاتفاق من موقع القوة، بل من موقع الإرهاق، بعد أن أنهكتها آلة الحرب الإسرائيلية، وضغط الوسطاء، وجوع الناس ونفاد صبرهم.
ومع ذلك، فإن الحية كان يؤدي دوراً مطلوباً سياسياً وشعبياً، إذ لم يكن أمامه إلا أن يعيد رسم صورة الانتصار الرمزي ليحفظ لحركته ما تبقى من شرعية في الشارع الفلسطيني. فالمعارك الكبرى لا تخاض بالسلاح فقط، ولكن بالكلمة أيضاً.
لهذا حرص على التذكير بأن «حماس» لم تتنازل عن سلاحها، ولم تعترف بالهزيمة، وأنها تفاوضت لا من أجل نفسها، بل من أجل كرامة الفلسطينيين جميعاً. خطاب أشبه بترميم الجدار النفسي بعد الزلزال، أكثر منه إعلان نصر حقيقي.
بنيامين نتانياهو كان هو الآخر حريصاً على أن يظهر بمظهر المنتصر. فبعد عامين من القتال، وجد نفسه مضطراً إلى أن يقنع الإسرائيليين بأنه حقق ما وعدهم به، استعادة الأسرى، وإضعاف «حماس» والفصائل المتحالفة معها، وضمان أن غزة لم تعد تشكل تهديداً لأمن إسرائيل. نتانياهو قال إن الاتفاق الذي أبرم يكرس النصر الإسرائيلي، وإن الجيش أدى مهمته على أكمل وجه.
بدا في خطابه كمن يحاول إنقاذ نفسه من الغرق السياسي، بعد أن تآكلت صورته في الداخل، وتراجعت شعبيته بين شركائه في الحكم. أراد أن يقدم ما حدث على أنه نصر استراتيجي يعيد لإسرائيل هيبتها أمام العالم، وأن الاتفاق ليس نهاية المعركة، بل هو بداية لمرحلة جديدة من إعادة الردع. وهو بذلك لا يعلن انتصاراً نهائياً، بقدر ما يعلن وقفاً مؤقتاً للقتال يتيح له ترتيب البيت الداخلي وتهدئة المعارضة التي تتربص به.
في الحقيقة، كلا الطرفين يحاول أن يبيع رواية نصر لجمهوره. فـ«حماس» تحتاج إلى استعادة المعنويات التي فقدتها في حرب غير متكافئة دخلتها بقرار خاطئ، وإسرائيل تحتاج إلى تبرير التكاليف التي دفعتها بشرياً واقتصادياً وسياسياً. وبين النصرين المعلنين، تكمن هزيمة مشتركة لا يجرؤ أي منهما على الاعتراف بها، هزيمة الإنسان، هزيمة العقل، وهزيمة الأمل في مستقبلٍ خالٍ من الدماء.
من الناحية الواقعية، يمكن القول إن إسرائيل حققت بعض أهدافها العسكرية، فقد دمرت جزءاً كبيراً من البنية التحتية لحركة «حماس» والفصائل المتحالفة معها، وقلصت قدرتهم على المناورة، واستعادت الرهائن. لكنها لم تنجح في القضاء التام على الحركة. أما «حماس»، فاحتفظت بورقة تفاوضية تتيح لها عدم الخروج من المشهد في الوقت الحالي، لكنها خسرت ما لا يقدر بثمن، خسرت الإنسان، والمدينة، والحياة اليومية للمواطن الغزاوي التي تحولت إلى رماد. إنها معادلة قاسية يصعب تسميتها نصراً، لأن طرفيها خاسران وإن اختلف شكل الخسارة.
وحده الشعب الفلسطيني خرج من هذه الحرب مثخناً بالجراح مثقلاً بالأسى، فهو الخاسر الأكبر في المعركة. قتلاه الذين فقدهم، بيوته التي سُوّيت بالأرض، مدنه التي تحولت إلى أنقاض، وأطفاله الذين عاشوا سنتين من الرعب، كل ذلك لا يمكن أن يُرمّم بخطابٍ من هنا أو مؤتمرٍ من هناك.