: آخر تحديث

معضلة التصوّر للحدث المفاجئ

3
3
3

كان الأولون يعدون التغيّر السياسي المفاجئ مسألة توريط عميقة، سواء على المستوى الكلامي العقائدي أو الاجتماعي، وليس انتهاءً بالسياسي بل الوجودي.

إن النمط النظري في السياسة العربية معقّد وكثيف. عبر التاريخ شكّلت السياسة جزءاً من المدوّنات الرئيسية للفلاسفة والأدباء والعلماء، لأن النظريّة السياسية تحمل معها أفكارها المقلقة التي لم تُحسم آنذاك بشكلٍ تام، ولذلك نجدهم يكتبون حول السياسة الشرعية، والأحكام السلطانية وسواها من المدوّنات التراثية التي تحاول طرح نظرياتٍ شرعية، من أجل تدبير الشأن العام وسوْس الناس.

في عصرنا، ومع تطوّر الميديا تحوّلت الأخبار السياسية اللحظيّة إلى جزء من المتعة اليومية للناس أو كادت تكون؛ وذلك بسبب التفوّق التقني الهائل، والتطوّر المهني السريع، كل ذلك مصحوب بالجماليات البصرية، أما عن التسلسل الحدثي فلكأنهم يشاهدون سلسلة سينمائية طويلة.

معظم الناس لا يتابعون الأخبار بوصفها جزءاً من قصّتهم الشخصية، وإنما يتخذون منها فرصة لتزجية الوقت. ما عاد الخبر السياسي يقود إلى تكوين موقف فردي بالضرورة، بل أخذ آماده الأخرى الأكثر أنانيةً ولحظيةً ودنيويّة، بمعنى أن يكون الحدث المشاهَد قصارى ما يؤدي إليه تغذية المجالس بالحديث والنقاش ومحتوى للتداول.

متخصصون كثر درسوا سبب تحوّل الخبر لدى الإنسان إلى قصّة أكثر منه قضية، ومنهم من صعّد أخلاقياً ضد المشاهِد بسبب تسلّيه بقهوته لحظة إعلان الخبر الحزين، ولهذا نقاش نظري طويل.

بيد أن ثمة معضلات أكبر من تعقيدات النظريّة السياسية التاريخية، ومن كل تحوّلات صناعة الخبر السياسي الحالي، أعني بها مأساة التصوّر للحدث السياسي ومثالب تفسيره، وهذا ما أريد شرحه بهذه السطور.

لقد شكّلت منصّات التنظير السياسي في البودكاست للبعض فرصةً للتعالم، ولترويج الأكاذيب، والتغذّي على أقاويل تاريخية مغلوطة.

منذ عقدَين من الآن مرّت أحداث قويّة في الإقليم جعلت الرؤية عند البعض أكثر غشاوة. والآن بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 تُستعاد المأساة التحليلية من دون أيّ تبصّر ولا إدراكٍ للتحوّلات وطبيعتها، مع فقدانٍ للحكمة في تبويب الموضوعات واستيعاب تغيّراتها، ولا تفريقٍ عندهم بين فهم الواقع والتعامل الحكيم مع الواقعة.

ثمة محاولات حثيثة لاستعادة موجات قديمة مثل القوميّة الرجعية والأصوليّة الكارثية، وصولاً إلى كتاباتٍ وتحليلات هدفها إعادة تفسير محدّث للخمينية السياسية، وهذا يعني أن الأفكار المرسلة من قبل تلك التيارات خطيرة وماكرة، خصوصاً بعد الانكسار الكبير لـ«حزب الله».

إنها كوارث فكرية جرّتها الأحداث الأخيرة المتصاعدة؛ هي غايةٌ بالمخاتلة ومعززةٌ بمحاولات التوظيف.

ما عادت التحليلات المتذاكية النزّاعة نحو الالتفاف على الأحداث بغية وضعها لصالح المحور المهزوم مقنعة. ثمة واقع آخر يتشكّل لا بد من فهمه بواقعيّةٍ وحكمة وحصافة.

لم يكن المضمون في بعض التحليل السياسي مشمولاً بتكوين نظريٍ كافٍ رغم أن الساحة مملوءة بمن يصفون أنفسهم بالخبراء أو المهتمين بالفلسفة السياسية. قلة من الكتاب والمفكّرين من استطاعوا -مثلاً- شرح مفهوم الدولة بوجه الرياح العاتية والتغيّرات الخطيرة المتسارعة، وهي تطوّرات مرعبة.

ثمة إجراءات كبيرة ومواقف أساسية قامت بها الدول التنموية الصاعدة، ولم يستطع العديد من المحللين شرحها أو تفهيمها للقارئ والمتابع بطريقةٍ نظريةٍ محكمة.

لم يكن المضمون المطروح حول التطوّر الأخير منذ سنواتٍ ثلاث مشمولاً بتعميق فكرة ضرورية، أساسها أن الحالة الإرهابية في الإقليم تحاول تزمين تمددها مع الموجات الشعبية والحركية الصاعدة، ما عدا أطروحات من نخبةٍ محددة.

الفكرة الأوّلية لا بد أن تُصاغ بضرورة فصل الأحداث عن مستغليها من المتطرفين والمارقين والمشاغبين. عبر تاريخنا الطويل مع كل حدثٍ ضخم تغتنم التنظيمات المتطرّفة الإرهابية هذه الفرص بغية ضرب مفهوم الدولة والانقضاض على السلطة. لا بد من فصل الواقعة السياسية الأخلاقية عن محاولات التوظيف الإرهابية.

الخلاصة؛ أن الحدث الضخم من الضروري أن تتعامل معه النخب بمستوى من المسؤولية. ثمة تحديات تأتي مع أي حدثٍ مفاجئ لا بد من درسها وتحليلها بطريقةٍ أكثر حيويّة.

دول الإقليم التنموية الصاعدة ومنذ عقدَين من الاضطرابات تمكّنت من لجم التحديات وهزيمة التطرّفات وسحق الخطط الآيديولوجية الجهنمية.

لطالما كان القادة والساسة عندنا أكثر حكمةً من المبصّرين والمثقفين والمحللين.

من زمنٍ طويل بقيت مهمّة المثقف العربي أحياناً عاجزة عن التواؤم مع الوعي السياسي المتفوّق، وربما معادية للرؤى الفاحصة المستقبليّة البعيدة المدى. من حسن حظّ هذا الإقليم أن وُجدت به دول تُدار بسياساتٍ حكيمة تجيد وبحنكة إدارة الأزمات، وتقود بلدانها إلى المسالك وتنجّيهم من المهالك، وهذا الهدف مرتقىً صعبٌ سلّمه على دولٍ أخرى في الإقليم تعيش آثار كوارث إدماج الدويلات في الدولة، وتغليب الحالة الآيديولوجية على الأسس الدنيويّة وعلى المشاريع التنموية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد