: آخر تحديث

المُسيَّرات والدنمارك والسحر الأسود

1
2
2

ألقت رئيسة وزراء الدنمارك، ميته فريدريكسن، خطاباً لبلادها يوم الخميس الماضي كان بمثابة بيان حرب فعلي، يتعلق بالظهور المفاجئ لطائرات مسيَّرة غامضة فوق منشآت حيوية، مدنية وعسكرية.

أقول «أشبه ما يكون ببيان حرب» لأنه عادةً ما يحدد بيان الحرب العدو ويوضح طبيعة الصراع، لكنَّ خطاب فريدريكسن كان أكثر غرابةً بعض الشيء. لقد كان بياناً صارماً في مواجهة ما سمتها «الحرب الهجينة»، متحفظاً بشأن كلٍّ من هوية الخصم والاستجابة المناسبة. أشارت فريدريكسن إلى أنهم ربما يكونون الروس، إذ قالت: «يمكننا على الأقل أن نؤكد أن هناك دولة واحدة بشكل رئيسي تشكل تهديداً لأمن أوروبا، هي روسيا».

غير أن المسؤولية الروسية ليست مؤكدة، ولا ما سيأتي بعد ذلك. فبدلاً من الدعوة إلى حمل السلاح، كانت هناك دعوة غير واضحة: «لقد رفعت السلطات مستوى التأهب. وهي تستعد لسيناريوهات مختلفة».

في أثناء مشاهدتي الخطاب ومقاطع الفيديو للطائرات المسيَّرة، تذكرت المقولة الشهيرة لكاتب الخيال العلمي آرثر سي كلارك: «أي تقنية متقدمة بما فيه الكفاية لا يمكن تمييزها عن السحر».

اعتدتُ أن أفسِّر هذه المقولة على أنها تعليق مباشر حول كيفية اعتماد الشخص العصري العادي على آلات لن يفهم طريقة عملها على الأرجح أبداً. الكمبيوتر يعمل، الطائرة تُقلع، الدواء يقتل البكتيريا... نأمل أن يكون هناك شخص يفهم كيفية عمل كل ذلك، لكنك في الأساس تأخذ الأمر من باب ما تثق به وما تؤمن به.

لكن في الآونة الأخيرة أصبح لمقولة كلارك صدى مختلف. يمكنك الدخول في لحظات تكنولوجية حيث لا يكمن الغموض أو الاضطراب السحري الغريب فقط في كيفية عمل الشيء الجديد، بل فيما يفعله، ومن أين يأتي، وماذا قد يكون قادراً على فعله لاحقاً... أنا لا أفهم تماماً كيف يعمل جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي، لكنني أعرف مَن صنعه ولماذا، ولديَّ إحساس جيد بقدراته وحدوده. هذا ليس هو الحال مع التقنيات التي هي في طور إعادة تشكيل عالمنا. نطاق عدم اليقين أكبر، والشعور بالغموض أكثر حدة.

وهكذا هو الحال مع تقنية الطائرات المسيَّرة (الدرونز): من الواضح أنها مستقبل الحروب، والمراقبة، وربما الإرهاب أيضاً، ويمكنك متابعة الأحداث على الخطوط الأمامية في أوكرانيا ورؤية جزء من هذا المستقبل يتشكل. لكن في الوقت الحالي، تبدو الطائرات المسيَّرة أكثر غموضاً بطبيعتها من الدبابة أو الطائرة المقاتلة. يمكن أن تظهر فوق نيوجيرسي بسهولة كما تظهر فوق كوبنهاغن، ويمكن أن يُخطئ البعض ويعتقد أنها أشكال تكنولوجية عادية والعكس بالعكس، وهي تثير قدراً معيناً من التهديد حتى عندما لا تفعل الكثير. ومن الواضح أن الحكومات لا تحب التحدث عنها (تطلَّب الأمر تغيير الإدارة حتى تعلن الحكومة الأميركية أن طائرات نيوجيرسي المسيَّرة كانت تحظى بنوع من التصريح)، وهي تبدو كأنها أجسام طائرة مجهولة الهوية، على الرغم من أنها من المفترض أن تكون ذات منشأ أرضي.

في الأثناء ذاتها، لا تزال قدراتها النهائية تتبلور. لم يتوقع الإيرانيون ما حققته الطائرات المسيَّرة الإسرائيلية في الحرب القصيرة هذا العام. لا نعرف ما يمكن أن تفعله الطائرات المسيَّرة الصينية في حرب حول تايوان. وهم (كما نأمل) لا يعرفون ما يمكن أن تفعله طائراتنا. وأحد التفسيرات الأرضية الأكثر منطقية لكل النشاط الحكومي الغريب حول الأجسام الطائرة المجهولة هو أنها محاولة للتستر على نوع من التسارع الجنوني في تكنولوجيا الطائرات المسيَّرة.

ثم بطبيعة الحال، ينسحب المزيج نفسه من عدم اليقين والغموض، على الذكاء الاصطناعي (وهو في حد ذاته من القوى الرئيسية وراء ثورة الطائرات المسيَّرة)، الذي أصبح تأثيره واسع النطاق بالفعل -حيث أصبحت محفظة الأسهم للجميع مرتبطة حالياً بمراهنات الذكاء الاصطناعي الجامحة لشركات التكنولوجيا الكبرى- من دون أن يكون لدى أي شخص وضوح حقيقي بشأن ما ستكون التكنولوجيا قادرةً على فعله في عام 2027، ناهيكم بعام 2035.

وبما أن مهمة الخبير هي -جزئياً- وضع تنبؤات حول كيف سيبدو العالم في اليوم الذي يلي الغد، فإن هذا يمثل مصدر إحباط مستمر على نطاق لم أعرفه من قبل. أكتب عن الذكاء الاصطناعي، وأتحدث إلى الخبراء، وأحاول قراءة أقوى الآراء، ولكنني مقيَّد باستمرار، ليس فقط بسبب افتقاري إلى الخبرة التقنية، وإنما أيضاً بسبب غموض أعمق يحيط بالمشروع برمته.

تخيَّلْ لو أنك كنت تحاول الكتابة بذكاء عن الأثر الاجتماعي والاقتصادي للسكك الحديدية في منتصف القرن التاسع عشر، ونصف الأشخاص الذين يستثمرون في القطارات كانوا مقتنعين بأن الخطوة التالية بعد السكك الحديدية العابرة للقارات ستكون سكة حديد إلى القمر، بينما كانت أقليةٌ متشككةٌ متأكدةً من أن المستثمرين في «يونيون باسيفيك» سوف يُفلسون جميعاً، وكان كثير من المحللين مقتنعين بأن القطارات تطوِّر شكلها الخاص من الوعي، وكان مراقبون يبدون عقلانيين يحددون احتمالية وقوع كارثة مدفوعة بالقطارات بنسبة 20 أو 30 في المائة، وكانت هناك طوائف غريبة لعبادة القاطرات تتطور على هامش الصناعة...!

ماذا يمكنك أن تقول بشكل منطقي عن مثل هذا العالم؟ لقد قدمت رئيسة وزراء الدنمارك بالفعل الإجابة الوحيدة الممكنة: ارفعوا مستويات تأهبكم، واستعدوا لسيناريوهات مختلفة.

* خدمة «نيويورك تايمز»


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد