الدائرة تكتمل، والدائرة أكمل الأشكال الهندسية، كما قال الفلاسفة اليونان، والاكتمال هنا ظهر في العاصمة البريطانية، لندن، عاصمة الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، صاحبة وعد «بلفور» بتمكين إسرائيل من فلسطين العربية، حين وعدت بإقامة وطن قومي لليهود عام 1917، بتوقيع آرثر بلفور، وزير الخارجية الشهير، الآن لم يستطع ضباب لندن أن يحجب الرؤية عن حقيقة ظلت مائة وثمانية أعوام تراوح بين الموت والإبادة، لشعبٍ شاء حظه العَثِر أن تنتهي نتائج الحرب العالمية على أراضيه، لندن تكمل الجزء المفقود لتكتمل، وتعترف بدولة فلسطين، ويُرفَع علم فلسطين على أراضيها.
ثمة مفارقة، فرغم خروج بريطانيا من عصر الإمبراطورية العظمى، فإنها لا تزال محور السياسة العالمية، ولديها ما يسمى دول الكومنولث؛ وتمتد على الكرة الأرضية طولاً وعرضاً، ولديها آثار عميقة في دول وشعوب حول العالم؛ ولذا لم يكن غريباً أن تعترف كندا وأستراليا بدولة فلسطين بالتوازي معها؛ لأنهما دولتان ضمن سياق التاج البريطاني، وبالتأكيد فإن اعتراف بريطانيا سيشكل صدمة هائلة لإسرائيل، وقد انعكس ذلك فيما كتبه الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، على موقع «إكس»، إنه يوم حزين في إسرائيل، فالبلد الذي وضع اللبنة الأولى لدولة إسرائيل هو نفسه الذي يقوم بعدل الميزان، فلم يتخيل العقل الإسرائيلي أن تكون بريطانيا نفسها هي التي تكتب وعداً جديداً، صحيح أن بريطانيا حين كانت منتدبةً على فلسطين، قدمت «الكتاب الأبيض» عام 1939 الذي كان يحاول حل الصراع العربي - اليهودي في أرض كنعان، ذلك الكتاب الذي جاء بعد اندلاع الثورة الفلسطينية بين عامي 1936 و1939، الذي كاد أن يحدث لولا أن اندلعت الحرب العالمية الثانية، لكن بريطانيا نفسها أيضاً أسهمت في الهجرة اليهودية الكثيفة إلى فلسطين، وظلت تدعم إسرائيل دبلوماسياً وعسكرياً، حتى إنها شاركتها العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
جرت تحت الجسر مياه كثيرة، الضمير العالمي انتفض بفعل ارتكاب الإبادات والجرائم الكبرى في حق الشعب الفلسطيني، لندن تعرف جيداً دروب السياسة العالمية، تمتلك جيداً مهارة استشعار الخطر الذي ربما يمزق النظام الدولي؛ وهي أحد أعمدته الكبرى مع الولايات المتحدة.
دهاء السياسة البريطانية جعلها تستبق بخطوة، فهذا النظام الدولي لن يستمر طويلاً، فاستشرفت بريطانيا ملامح العصر القادم، فتغاضت عن غضب إسرائيل والحزب الجمهوري الأميركي، وحتى عن غضب رعاياها من معتنقي الديانة اليهودية؛ الذين اعتبروا اعتراف بريطانيا بدولة فلسطين كارثة تاريخية، وقالوا إنهم سيغادرونها إلى إسرائيل.
الاعتراف البريطاني ليس كأي اعتراف آخر، فقبل يومين من هذا التحول التاريخي، كانت لندن تستقبل الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، في زيارة دولة رسمية، ومعروف أن الرئيس الأميركي يرفض وحزبه الجمهوري الاعتراف بدولة فلسطينية، لكن حسابات لندن تختلف عن حسابات واشنطن عندما يتعلق الأمر بالمسارات الاستراتيجية.
لا شك في أن لندن تقرأ إشارات أمواج الاعترافات الجارفة بعناية ودقة، هناك أكثر من 90 في المائة من سكان الأرض يقفون في الجانب الصحيح من التاريخ، وبريطانيا ـ الحصيفة سياسياً ـ مدربة على قراءة المتغيرات والقفز عليها، وقيادتها ثم استثمارها استراتيجياً، وها هي تفعل.
هذا السياق العالمي الجديد يضع خرائط العالم أمام اختبار وجودي، فنحن إزاء اعترافات نادرة في العدالة الدولية الحالية بشأن قضية طالت قسوتها أكثر مما ينبغي، وفي الوقت ذاته تقابلها تهديدات وجودية يساعد عليها امتلاك أسلحة استراتيجية، يمكن أن تستخدم عرضاً في حرب عالمية ثالثة وأخيرة، ومن ثم أدرك الأوروبيون خطر اللحظة، فسارعوا باستباق سياسي، دفعت إليه المنظومة العربية؛ مصر والمملكة العربية السعودية، وتسلمته فرنسا ومعها بريطانيا، ومن قبل كان موقف إسبانيا الواضح والصريح، ثم جاءت كندا وأستراليا والبرتغال لتضيف أبعاداً مطلوبة في العدالة الدولية، ولا شك في أن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، شجع العالم المتردد على الاعتراف بدولة فلسطين من قبل 157 دولة وبحل الدولتين، وإنما يؤكد ذلك أن العالم يريد أخيراً إنجاز عدالة غائبة، والانتهاء من فصل الحرب العالمية الثانية المرير.
لكن هذا وحده لا يكفي، فالاعتراف يحتاج إلى تعامل حكيم، وقيادة فلسطينية تُمسك باللحظة التي ربما لا تتكرر في سياق آخر، فمن غير المعقول أن ينتفض العالم باعترافاته، بينما تبقى الساحة الفلسطينية ممزقة بين فصائل وجماعات وتنظيمات وقوى إقليمية، تستغل هذا الانقسام لمصالحها الاستراتيجية الذاتية، وعلى حساب مستقبل الشعب الفلسطيني.
وأيضاً أرى أن العرب مطالبون في هذا التوقيت الدقيق بمساعدة الفلسطينيين في تشكيل مثل هذه القيادة الحتمية والضرورية، لا سيما أن الأخطار أكبر مما يتصوره أي عقل، ويتبدى ذلك في تصريحات بنيامين نتنياهو، الذي يسابق الزمن لكسر رقبة الاعترافات الدولية، بعد أن صدمه مكر التاريخ وإخلاص الجغرافيا.