مكرم رباح
في المراسم والبروتوكولات المُتَبعة في المناسبات الرسمية اللبنانية، تُرتَّب كراسي الرئاسات الثلاث، بحيث يتقدّم كرسي رئيس الجمهورية على سائر الكراسي الأخرى. يُعتَمد دائماً هذا الترتيب الرمزي للتأكيد على تقادم المنصب مما يُشكل «رمزاً لوحدة الوطن».
غير أن هذه الرمزية لم تكن يوماً بريئة، بل كثيراً ما تحوّلت إلى أداة صراع على الشكل لا على الجوهر، وإلى مرآة تكشف طبيعة النظام السياسي اللبناني القائم على المحاصصة والرموز الفارغة.
روى لي معلمي المؤرخ الراحل كمال صليبي، حادثة تختصر هذا العَبَث. قرر رئيس الوزراء صائب سلام، في مناسبة رسمية، أن يضع كرسيه بمحاذاة كرسي رئيس الجمهورية سليمان فرنجية، للدلالة على المساواة بين رأسي السلطة التنفيذية.
فرنجية لم يعلّق على الحادثة، لكنه اكتفى بنظرته القاسية.
وفي المناسبة التالية، فوجئ سلام بأن كرسيه قد ثُبّت في الأرض بناءً على تعليمات رئاسية صارمة، كرسالة واضحة مفادها بأن فكرة المساواة غير مقبولة، وأن التفوق البروتوكولي للرئيس الماروني على شريكه السني "خط أحمر".
هذه القصة، كما كان يقول صليبي، ليست سوى مثال على تفاهة الطبقة السياسية اللبنانية. فبدلاً من الانشغال بمسائل الحكم وبناء الدولة، كانت الصراعات تدور حول الكراسي ومواقعها.
هذه الظاهرة تدل أيضاً على الخلل البنيوي في السلطة التنفيذية وآلية تقاسمها، حيث تُختصر الشراكة الوطنية في تفاصيل شكلية تعكس عقلية طائفية ضيقة.
الأزمة اليوم بين الرؤساء في لبنان تعكس المنطق ذاته وإن اختلفت الأدوات. الأخطر أنّ بعض القوى، وعلى رأسها «حزب الله» وحركة "أمل"، شنّت "حملات تخوين" على نواف سلام رئيس الحكومة لأنه يعبّر عن موقف وطني حقيقي يرفض الخضوع لمعادلة السلاح غير الشرعي، بينما لم يجد دعماً من شركائه.
إن خطاب القسم الذي ألقاه الرئيس جوزف عون يوم انتخابه، والذي تميّز حينها بالوضوح والحزم، يتمنى البعض ألا يتلاشى. فكلمته الأخيرة على منبر الأمم المتحدة، خرجت عن السياق المحلي والإقليمي، في وقت استغل الرئيس السوري أحمد الشرع حضوره ليقدّم عرضاً دبلوماسياً متماسكاً أعاد بلاده إلى دائرة الاهتمام الدولي، ليبدو بالمقابل لبنان شبه غائب بالكامل.
أما الرسالة التي تلقاها المجتمع الدولي من خلال الغياب اللبناني، فتمثلت بأن المطلوب مواجهة التحدي الحقيقي، أي سلاح «حزب الله» الذي يختطف الدولة.
والأشد خطراً من ذلك، أنّ في لبنان من لا يريد الاعتراف بالفرصة التاريخية لإعادة بناء الوطن على أسس صلبة. فبعد التورط في "حرب الاسناد" وجر البلاد والعباد الى كارثة حقيقية أدت الى تدمير المقدرات وهزيمة الممانعة، كان يُفترض أن يشكّل هذا التحوّل نقطة انطلاق لبناء عقد اجتماعي جديد، يرتكز على دولة واحدة بقرار سيادي واحد، لا على ميليشيات مسلّحة تتحكم بالبلاد.
كان يُفترض أن يكون انتخاب رئيس جديد بمثابة لحظة مفصلية، يتم فيها التعهد العلني بنزع سلاح الحزب، بدءاً من تفكيك مخازن الذخيرة المنتشرة في القرى، مروراً باجتثاث كبار الموظفين من «محور الكبتاغون» من المؤسسات، وصولاً إلى إعادة الاعتبار للقضاء والمؤسسات الأمنية.
لكن ما حصل حتى الآن، فوت فرصة تاريخية لتصحيح المسار.
أما على مستوى التفاصيل الرمزية، فلم يكن احتفال «إضاءة صخرة الروشة» أكثر من عرض لجماعة ترفع شعارات كبيرة، لكنها في الواقع لا تتجاوز صورة القيادي في الحزب وفيق صفا، الذي يمثّل الوجه الحقيقي لهذه الثقافة المزيفة.
أيضاً، أتت حادثة توقيف الشيخ عباس يزبك في مطار رفيق الحريري الدولي لتؤكد هذا الخلل. فهي لم تكن مجرد إجراء قضائي عادي، بل محطة خطيرة تكشف تغوّل بعض الأجهزة الأمنية، حين تتحوّل إلى أداة بيد «حزب الله» لتصفية معارضيه من داخل بيئته.
إن التعامل المهين مع شخصية أكاديمية ودينية واجتماعية معروفة، يفضح التماهي بين الدولة والحزب، ويكشف أن الترهيب لم يعد محصوراً في الشارع، بل بات يُمارس بختم رسمي. هذه المشهدية تحديداً تَختَبر مسؤولية المعنيين الذين يفترض ان يكونوا حراس الدستور والسيادة وضامني الحريات وفي مقدمتها حرية التعبير.
الدرس الأهم المستفاد من كل ما تقدم هو أن الرئاسة ليس كرسيّاً يُثبَّت في الأرض، بل هي الدستور الحيّ الذي يجسّد السيادة. فالدستور لا ينص على تفوق كرسي على آخر، ولا يكرّس امتيازاً طائفياً أو شخصياً، ما يضمن وحدة الوطن ليس الشكل ولا البروتوكول، بل السيادة المطلقة المستندة إلى مؤسسات قوية تحكمها القوانين وتخضع للمساءلة.
أما القادر على إعادة لبنان إلى مكانه الطبيعي بين الأمم فهو المسؤول الذي يختار أن يكون هو الدستور، وأن يجسّد السيادة.
... لا فضل لرئيس على رئيس إلا بالسيادة، ولا ولاية إلا للدستور اللبناني.