منذ بدايات القرن العشرين، لعبت الشاشة الكبيرة والصغيرة دورا يتجاوز الترفيه البحت، لتصبح وسيلة مؤثرة تُشكل الوعي الجمعي وتصنع الهوية الوطنية، فالدراما ليست مجرد صور متحركة تستهدف الترفيه وقضاء الوقت فقط؛ بل خطاب ثقافي يرسّخ القيم، ويُبرز البطولات، وينقل رسالة تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتكمن قدرتها في التأثير في مزجها بين العاطفة والسرد، مما يجعلها قادرة على غرس قيم وطنية بطرق غير مباشرة، مما يرسخها في الأذهان عبر الأجيال.
الولايات المتحدة أدركت مبكرا دور الدراما كقوة ناعمة تؤثر على الداخل والخارج معاً، "هوليوود" قدّمت مئات الأعمال التي تعزز صورة "الحلم الأميركي" وقيم الحرية والديمقراطية، هذه الرسائل ساهمت في تعزيز الولاء الوطني داخليا، وفي الوقت نفسه منحت صورة إيجابية للبلاد خارجياً، مما ساعد على ترسيخ نفوذها الثقافي عالمياً.
قوة السينما تكمن في استمرارية تأثيرها على عكس المنتجات الإعلامية الأخرى، ذلك أن أي فيلم أو مسلسل يُنتَج في حقبة معينة لكنه يظل يُشاهَد ويُلهم أجيالاً لاحقة، الأفلام الوطنية عادة الدراما تُعيد صياغة أحداث تاريخية أو مواقف بطولية لتقدمها في قالب درامي يجذب المشاهد، وأفضل من نجح في ذلك هي صناعة السينما الأميركية، ومنها تلكم الأفلام التي تناولت الحرب العالمية الثانية مثل "إنقاذ الجندي رايان"، الذي لم يكتفِ بسرد الوقائع، بل جسد معاني التضحية والوحدة الوطنية والالتفاف حول راية الوطن، كذلك فيلم "بيرل هاربر" الذي أعاد سرد لحظة فارقة في التاريخ الأميركي، ليس فقط كحدث عسكري باستهداف اليابان الميناء البحري، بل كرمز للصمود والنهضة، وفيلم "توب قن" الذي جسّد احترافية الطيار الأميركي وروحه القتالية، وألهم أجيالًا جديدة من الشباب الأميركي بالانخراط في القوات البحرية والجوية.
وفي العالم العربي هناك بعض التجارب التي استخدمت الدراما كمنصة لترسيخ البطولات الوطنية، مثل فيلم "مهمة في إيلات"، ومسلسل رأفت الهجان الذي رسخ صورة البطل الاستخباراتي الذي يخدم وطنه في الخفاء، ومسلسل "الاختيار" بمواسمه الثلاثة.
أما المسلسلات، فبحكم طولها واستمراريتها، تتميز بقدرتها على التغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، وتوصل رسائل أكثر وتغرس القيم بشكل تدريجي. ومنها مثلاً المسلسل الأميركي "إخوة في السلاح" إذ لم يقدّم فقط بطولات الجنود الأميركيين خلال الحرب العالمية الثانية، بل أبرز قيم الأخوة، التضحية، والانتماء.
في المملكة ظهرت بعض التجارب المميزة، مثل ما فعلت وزارة الدفاع في الفيلم القصير "العوجا 17:47"، الذي عزز صورة صولات وجولات أبطال القوات المسلحة السعودية، وفيلم "عشرة واحد" من إنتاج الحرس الوطني، وفيلم "المواجهة صفر" من إنتاج وزارة الداخلية السعودية.
الإنتاج الدرامي للبطولات الوطنية ليست ترفًا أو تسلية، بل رواية وطنية معاصرة تسهم في بناء الهوية الجماعية، وتشكيل الذاكرة الشعبية، وتعزيز القيم الوطنية، لذ فإن الاستثمار في تلكم الصناعة هو استثمار في المستقبل، لأنه يضمن استمرار القيم والبطولات حيّة في وجدان الأجيال القادمة، ويمنح للأمة صوتاً وصورة تتجاوز حدودها الجغرافية لتصل إلى العالم بأسره.