في المساء يعود صغاري
وقد كبروا كي يعودوا إليَّ مساءً
ليلقونني البدوي القديم الذي يشعل النار في ظله
كي يعيش طويلًا على ذمة الذكريات..
وقرض السنين
يحيّونني متعبينَ
ويستأذنون لكي يصعدوا نومهم هانئين!
ينادونني بالكبير.. الذي يتجاوز عن قلبه
ويطيل صلاة الحنين
أسائلهم بعد أن يصعدوا.. ويذوب جليد انتظاري
غدًا.. هل يحين؟!
سألت أولادي ذات مساء.. ما الذي عرفتوه عني.. أبًا وشاعرًا؟
قالوا لطالما نافسنا الشعر عليك في طفولتنا.. عندها أخذت أروي لهم رحلة الشاعر مع قصيدته أملاً في أن أبرّر أو أخفف عنهم هذا النقص الذي يتذاكرونه فيّ بحبٍّ وبراءة.. قلت لهم قبل أن يخط الشاعر أول حروفه، تكون القصيدة قد وُلدت في صمتٍ آخر؛ في مكانٍ غامضٍ لا يُعرف بين الحلم واليقظة، هناك، تتكوّر الفكرة في هيئة شعاعٍ داخلي، كأنها نداء لا يُسمع إلا بالقلب وحينها أكون معكم جسداً وروحي في مكان آخر.. في تلك اللحظة، أكون مهيّأ أكثر مما أكون راغبًا، مستسلِمًا لا مختارًا، كأنني أستقبل زائرًا لا أعرف متى يرحل، ومع هذا أحيا انتظاره شغفاً وترقّبه شجناً
وحين أبدأ في الكتابة، تتحول كل هذه الحالة إلى صراعٍ رقيق، فيه من العشق بقدر ما فيه من المقاومة، فالكلمات تأتي أحيانًا طيّعة، كأنها أرادت أن تتجسد منذ زمنٍ طويل، وأحيانًا تتمنّع كطفلةٍ عنيدةٍ لا تقبل أن تُمسك يدها إلا في الظلام، الشاعر هنا يا أبنائي في معركة مزدوجة: مع ذاته أولًا، إذ يحاول أن يصوغ ما لا يُصاغ، ومع اللغة ثانيًا، التي تُريد أن تحفظ لنفسها سرّها ولا تُفصح إلا بمقدار ما يُحتمل، لحظة الكتابة هي لحظة قلق لا ينتهي، يتناوب فيها النشوة واليأس، كأن القصيدة مرآةٌ تعكس اتساعه وضيقَه في آن.. ثم تكتمل القصيدة، لا حين يقرر الشاعر التوقف، بل حين تقرر هي، عندها يبدأ طورٌ جديد من العلاقة، هو طور الغياب، القصيدة تغادره كما تغادر العصافير شجرةً أثقلت أغصانها بالغناء، تتركه فارغًا ممتلئًا في الوقت ذاته، يقرؤها في عينيه كغريبٍ جاء من أعماقه، فيتساءل: هل هذه كلماتي فعلًا، أم أنها مرّت بي كما تمر الريح على صحراء وتترك أثرًا لا يخصّها؟
بعد اكتمالها، تصبح القصيدة كائنًا مستقلاً، له حياة خارج جسد الشاعر، هي ابنةٌ تنأى عن بيتها الأول، تذهب لتسكن في قلوب الآخرين، وتُعاد ولادتها في أصواتهم وقراءاتهم، وبالتالي يتراجع الشاعر من دور الخالق إلى دور الشاهد؛ يراقب كيف تتحول تجربته الخاصة إلى تجربة عامة، كيف يصير وجعه وجعًا للجميع، وفرحه فرحًا يتوزع في أنفاس الآخرين...
إن علاقة الشاعر بقصيدته يا أبنائي ليست علاقة كتابة فحسب، بل علاقة وجودية، تبدأ بالانتظار، تمر بالمعاناة والاحتراق، وتنتهي بالانفصال، وما بين البداية والنهاية، يظل الشعر ذلك الجسر الغامض الذي يعبر به الإنسان من ذاته إلى العالم، ومن العالم إلى ذاته من جديد...
بالله عليكم بعد كل هذا العبور الطويل ألا يكفي مني أن أحدثكم عنه الآن؟!