السؤالُ لم يعد: ما الذي تريدُه إسرائيلُ أو الإسرائيليون من هذه الحرب؟ بل أصبحَ ماذا يريد بنيامين نتنياهو من هذه الحرب؟ فكلما طال أمدُها تكشَّف أنَّ ما يجري ليس معركة دولة بقدر ما هو مشروع شخصيٌّ لرجل يواجه مأزقاً داخلياً وسياسياً وقضائياً، فحوّل دماء الفلسطينيين ودمار المنطقة إلى درع تحمي بقاءه.
لم تعدِ الحربُ التي تشتعل منذ نحو سنتين حربَ إسرائيلَ كلّها، بل غدت «حربَ نتنياهو»؛ من خطاب التَّحريض إلى قرارات الاغتيال، من مشهد القصفِ في غزة إلى محاولة اغتيالِ قادة «حماس» في قلب الدوحة في التاسع من سبتمبر (أيلول) الحالي، تبدو بصمات الرجل واضحة، وقراراتُه تخدم معاركَه السياسيةَ أكثر مما تحمي ما يسمى الأمنً القوميَّ الإسرائيلي.
في أغسطس (آب) الماضي، خرج المعلّقُ اليمينيُّ المتطرف ياكوف بردوغو، أحدُ أكثر المقربين من نتنياهو، ليطالب علناً بقتلِ قادة «حماس» في قطر، بل ذهبَ أبعد من ذلك حين قال: «يجب ألّا نخشى من إلحاق الضَّرر بقطر»، وبعد أسابيعَ فقط تحولت الكلمات إلى فعل، وأصبحتِ الدوحة، العاصمةُ الوسيطةُ، ساحةً جديدةً لنيران نتنياهو.
قد يقال إنَّ إسرائيلَ تجاوزت حدودَ فلسطين مراراً، فضربت في لبنانَ وسوريا وإيران واليمن، لكنَّها كانت عمليات تبرَّر بوصفها صراعاتٍ إقليميةً أو معارك استباقية، الجديد هنا أنَّ نتنياهو ينقل الصراع إلى أرض وسيط، إلى دولة لم تكن طرفاً في القتال، والرسالة كانت واضحة: لا حصانة لأحد، ولا حصانة لدولة تحاول فتحَ نافذة للحوار، إنَّها حربٌ بلا حدود، تعكس عقليةَ رجلٍ محاصَر يبحث في الدم عن خلاصه السياسي.
المجتمع الدولي لم يعد ينظرُ إلى ما يجري على أنَّه حرب عسكرية فقط، فالمشاهدُ القادمة من غزة: المجاعة، والدمار، والقتل جماعي... تحوَّلت إلى ملفات قانونية أمام المحكمة الجنائية الدولية. مصطلح «الإبادة» لم يعد شعاراً سياسياً، بل صار جزءاً من تقارير أممية ومنظمات حقوقية، وفي قلب هذه الصورة يبرز اسم نتنياهو، ليس بصفتِه رئيسَ حكومة فحسب، بل بوصفه متهماً محتملاً بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
حتى داخل إسرائيل، لم يعد الغطاءُ الشعبيُّ متماسكاً. استطلاعات الرأي تُظهر تراجع الثقة، والشوارع امتلأت بالاحتجاجات، كما أن شخصيات بارزة غادرت حكومته: بيني غانتس استقال من مجلس الحرب بعد أن يئس من غياب خطة سياسية، ووزير الدفاع يوآف غالانت أُقيل بعد خلاف علني حول إدارة الحرب والرهائن، ورئيس الأركان هيرتسي هاليفي قدَّم استقالته محمِّلاً نفسَه مسؤولية إخفاقات السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، فيما خرج حزبُ بن غفير احتجاجاً على اتفاق وقفِ النار قبل أن يعودَ بشروطٍ جديدة، وإلى جانب ذلك استقال رونين بار رئيس «الشاباك». هذه الانقسامات والاستقالات تكشف عن أنَّ الحرب لم تعد حربَ إسرائيل، بل حرب نتنياهو وحده، وأنَّ مشروعه الشخصي يفتك حتى بإسرائيل نفسها.
قتلُ أكثر من 41 أسيراً إسرائيلياً بنيران العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة يثبت أنَّ نتنياهو لا يكترث بحياة الأسرى ولا بمواطنيه بقدر ما يسعى إلى تثبيت سرديته الشخصية، والمتتبع لتوقيت عملياته؛ مثل الهجوم على الدوحة أو اجتياح غزة، يجد أنها كثيراً ما تزامنت مع جلسات المحكمة للنظر في أربع قضايا فساد وخيانة مرفوعة ضده، كأن الحرب غطاء لإسكات الداخل وتأجيل ساعة الحساب.
وأقرَّ نتنياهو بنفسه بأنَّ إسرائيل تواجه عزلة اقتصادية متزايدة مع استمرار الحرب، بعد إعلان الاتحاد الأوروبي أمس فرض عقوبات جديدة على إسرائيلَ، بسبب حربها على غزة، وهو إقرار يفضح السياسات التي اعتمدها نتنياهو وأنَّها لم تجلب سوى الانكماش والعزلة لإسرائيل، وهو ما وصفه زعيم المعارضة يائير لابيد بأنَّها «تصريحات جنونية»، مؤكداً أنَّ العزلة ليست قدراً، بل هي نتاج سياسة خاطئة وفاشلة لنتنياهو.
إذن، لماذا هي حرب نتنياهو؟ لأنَّها حربُ إبادةٍ تُدار بعقلية رجل يبحث عن مَخرج شخصي من أزماته، لا عن مستقبل لشعبه، حرب تستبدل الاغتيال بالتفاوض، والرصاص بالدبلوماسية، حرب تضع إسرائيلَ على حافة المحاكم الدولية وتجعل من نتنياهو مجرمَ حربٍ، مكانه الطبيعي ليس على منصة الحكم، بل أمام قضاة العدالة، لذلك تسجيلها أنَّها «حرب نتنياهو» أمر مهم، فلم تصبح حرب إسرائيل، ولا أزمة غزة، ولا أزمة المنطقة بأكملها، والتاريخ سيكتب أن ما يجري لم يكن حرب إسرائيل ولا حرب الفلسطينيين فقط، بل حرب رجل واحد اسمه بنيامين نتنياهو، والحروب الشخصية لا تنتهي إلا بمحاكمة أصحابها.