: آخر تحديث

كرة القدم تحت القصف!

3
3
3

محمد ناصر العطوان

في غزة، حيث الحجارة تتعلّم الصمود منذ الطفولة، كانوا يلعبون بكرة اشتراها مدرب الأكاديمية قبل الحرب... يحلمون بأقدامهم كما يحلم عصفورٌ محبوسٌ بجناحيه... كانوا أطفالاً عاديين، إلا أنهم في قطاع غزة، حيث تكون الطفولة جريمة يعاقب عليها بالرصاص.

محمد الثلاثيني، 15 ربيعاً، كان يحلم بأن يكون حارس مرمى... كان يعرف أن الحارس يرى الملعب كله، يراقب الخطر القادم من كل اتجاه. لكنه لم يرَ القذيفة التي دمرت منزله في مدينة غزة. سقط حاملاً حلمه بين يديه، كمن يمسك بكرةٍ في الهواء ثم يسقط مغشياً عليه قبل أن تلمس الأرض.

يوسف النجار، كان هداف الأكاديمية... في حقيبته المدرسية، بجانب الكتب، احتفظ بزوجين من الجوارب الرياضية. كان يقول لأمه: «سألعب في ملعب كبير يوماً، وسأهديكِ هدفاً». لم تعلم الأم أن الهدف الذي ستتلقاه هو جثمان طفلها.

عبدالقادر أبوسمرة، كان يجرّي وراء الكرة كما لو كان يطارد فراشة. في آخر مباراة له، سجل هدفاً رائعاً، ورفع قميصه ليظهر تحته قميصاً مكتوباً عليه: «غزة لن تنكسر». انكسر هو، لكن قميصه بقي شاهداً.

كريم شعت، كان يملك قدماً يسرى ساحرة. معلموه يقولون إنه كان يروض الكرة كأنها حيوان أليف. في الليلة التي سبقت استشهاده، قال لأبيه: «حلمت أني ألعب في البرازيل». دفنوه وفي حقيبته كرة مطاطية بالية كتلك التي كانت لدى بيليه.

صلاح أبوداو، كان صغيراً حتى بالنسبة لحذائه الرياضي... لكنه في الملعب كان عملاقاً. كان قائداً طبيعياً، ينظم اللعب ويصيح في زملائه: «هيا يا شباب، الملعب لنا»... صراخه الأخير كان تحت الأنقاض.

عبدالرحمن أبوغلة، حلمه كان أن يصبح حكماً. كان يعرف القوانين عن ظهر قلب، ويصر على تطبيقها حتى في المباريات الودية... قتلوه وهو يحاول إنقاذ صديقه من تحت الركام، مطلقاً صافرته الخرساء.

صحيح أبوسمرة، أخو عبدالقادر، كان يخيط ثقوب الكرة بنفسه... كان يدّخر من مصروفه لشراء كرة جديدة. وجدوه ممسكاً بإبرة وخيط، وكرة ممزقة بجانبه. لم يتمكن من إصلاحها هذه المرة.

عبدالله جرادة، كان يركض أسرع من الجميع... يقولون إنه كان يسبق الريح، لكنه لم يسبق شظية القذيفة. دفنوه بقميصه الأزرق، ووضعوا بجانبه كرته التي لم تعد تتدحرج.

نصر جرادة، شقيق عبدالله، كان يحب التمريرات الطويلة. كان يقول: «الملعب كبير، والحلم أكبر». قتلوا حلمه وهو لايزال في المخدة، فلم يعد للملعب من حدود سوى حدود القبر.

محمد سالم، كان أصغرهم. كان يحضر التدريبات فقط لمشاهدة إخوته الأكبر. كتب في دفتره: «عندما أكبر، سألعب مثل ميسي»... كبروا له أربع تكبيرات فجأة، ودفنوه وهو لايزال يحمل قلمه ودفتره.

هؤلاء الأطفال العشرة، مع آلاف غيرهم، لم يقتلهم الصهاينة لأنهم يشكلون خطراً عسكرياً، بل لأنهم يشكلون خطراً على روايتهم وعلى سرديتهم المعلونة... كل طفل قتله الاحتلال هو قصة لن تُحكى، وهدف لن يُسجّل، وابتسامة لن تُرى، وحلم لن يتحقق.

في غزة، يولد الأطفال وهم يعرفون أن الاحتلال يخاف من الكرة أكثر من خوفه من الحجارة. لأن الكرة تذكر العالم بأن هنا أناساً يلعبون، يحلمون، يخلقون. والاحتلال لا يريد للعالم أن يرى إلا صورة واحدة: صورة الضحية المستسلمة.

لكن هؤلاء الأطفال، بأسمائهم وأحلامهم وألوان قمصانهم، يقولون للعالم: نحن هنا، ولدنا هنا، ولعبنا هنا، وسنظل هنا. حتى وإن دفنونا تحت أنقاض بيوتنا، فسيخرج من تحت الأنقاض جيل جديد يحمل كرته وأحلامه، ويواصل التدريب.

الاحتلال يظن أنه يقتل أطفالاً، لكنه في الحقيقة يقتل مستقبلاً كاملاً. يقتل أطباء، ومهندسين، ورياضيين، وفنانين. يقتل إمكانية أن تكون غزة شيئاً آخر غير سجن مفتوح... يقتل سؤال «ماذا لو بقينا»؟

لكنهم لا يعرفون أن أحلام الأطفال لا تموت... تنتقل من جيل إلى جيل، ككرة لا تتوقف عن التدحرج. قد تطمس الدبابات ملامح الملعب، لكنها لا تستطيع محو الخطوط البيضاء المرسومة في ذاكرة الذين بقوا.

سيأتي يوم... وتُعلَّق صور هؤلاء الأطفال في أكاديمية جديدة، وسيقول المدرب للجيل الجديد: «هذا يوسف كان هدافنا، وهذا عبدللقادر كان أسرعنا، وهذا محمد كان حارسنا».

وسيستمر اللعب، لأن الكرة في غزة ليست مجرد لعبة، بل هي إثبات للحياة نفسها.

الاحتلال يقتل الأطفال، لكنه لا يستطيع قتل الطفولة. يدمّر الملاعب، لكنه لا يستطيع تدمير اللعبة. لأنه كما كتب إدوارد غاليانو: «الكرة تدور حول العالم، وتدور معها أحلام الذين لم يعد لهم شيء سواها»...

وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله...أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله يضمحل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد