: آخر تحديث

القامة خالد سعود الزيد... عاشق الكلمة وحارس الذاكرة

1
1
1

عمر الطبطبائي

في زوايا الكويت القديمة، حيث تختلط رائحة البحر بصوت الأذان، ولد شاعر يكتب وكأن الكلمات دم يسري في عروقه، لم يكن المرحوم بإذن الله العم خالد سعود الزيد شاعراً فحسب، بل كان ذاكرة وطن وصوتاً يُصر على أن الماضي لا يموت ما دام فينا مَنْ يُعيده حيّاً.

قد يتوقف التعليم عند أبواب المدارس، لكن المعرفة لا تعرف قيوداً، هكذا كان العم خالد، لم تمنعه جدران الثانوية من الانطلاق، بل دفعته ليصبح طالباً في مدرسة الحياة، يقرأ، ويبحث، ويفتش في ثنايا التاريخ، ثم يشتهي أن يسكب في الحروف حياةً ومشاعر.

قصائده كانت تحمل دفء العاطفة، وشغف المحب، وصرخة الموقف، فكتب عن الوطن كما كتب عن ذاته، وعن الحب كما كتب عن الأمة، في أبياته شيء من الحنين، وشيء من الحكمة، وشيء من الشجن الكويتي الذي لا يشيخ، وحين وضع القلم مؤرخاً، تحول إلى عين لا تغفل، تحفظ تفاصيل الماضي، وتضعها بين يدي الأجيال كأمانة، كان جاداً في الفكر، عميقاً في النقد، لكنه لم يكن جافاً، فابتسامته كانت تسرق من الجدية بريقها، ومرحه يوازن قسوة البحث والتنقيب، كأن قلبه كان يعرف أن الشعر يحتاج لشيء من الطفولة حتى يظل قادراً على الدهشة.

وحين نتأمل مؤلفاته، نشعر وكأننا نسير معه في رحلة طويلة عبر الزمن والوجدان، بدأها بجمع الأمثال العامية عام 1961، كأنه أراد أن يمسك بأصوات الناس البسطاء، وأن يحفظ حكمتهم في صفحات لا يبهت حبرها، ثم حمل شعلة التأريخ للأدب الكويتي، فسطر ملحمته الأشهر أدباء الكويت في قرنين، بثلاثة أجزاء امتدت بين 1967 و1982، لتغدو مرجعاً لا غنى عنه لمَنْ أراد أن يعرف كيف نبض قلب الكويت بأدبائها، وفي الوقت نفسه، ظل الشاعر داخله حياً، يكتب دواوين مثل صلوات في معبد مهجور وكلمات من ألواح وبين واديك والقرى، حيث اختلط الحنين بالعاطفة، والوطن بالذات، ومع توالي السنين، أصبح العم خالد باحثاً محققاً، يُعيد قراءة تراث خالد الفرج، ويفتح كنوز دليل الخليج، وينقّب عن قصص ومسرحيات يتيمة ضاعت في المجلات القديمة، فلم يترك باباً إلا طرقه من المسرح الكويتي، إلى السير والتراجم الخليجية، إلى المخطوطات النادرة التي جمعها ونسج منها فهرساً يليق بعاشق للتراث، كانت مؤلفاته مثل خارطة واسعة، بعضها يضيء الماضي وبعضها يفتح دروب الحاضر، وبعضها يترك للغد وعوداً لا تموت.

وحين غاب عام 2001، لم يرحل فعلاً، بقيت كلماته وبقيت مؤلفاته، وبقي أثره في نفوس كل قارئ يفتح كتاباً له فيشعر أنه أمام قامة عاش بحبره أكثر مما عاش بجسده، ترك خلفه دروباً مضيئة، ومازالت الأجيال تسير عليها كأنها تستمع لخطاه، العم خالد سعود الزيد لم يكن مجرد شاعر أو مؤرخ، بل كان عاشقاً للكويت، حارساً لذاكرتها، ورفيقاً لكل مَنْ أحب الكلمة الصادقة، هو الذي علّمنا أن الأدب ليس حروفاً تُكتب، بل روح تُسكب، رحل الجسد لكن روحه مازالت تعانقنا في كل نص، وفي كل ذكرى.

ولم يكن العم خالد سعود الزيد شاعراً يعيش للأدب وحده، بل كان أباً محباً أيضاً، يزرع في بيته دفء الكلمة وصدق المشاعر، ومن بين أبنائه يبرز اسم جاسم، الذي لم يكن مجرد ابن لشاعر كبير، بل أصبح هو نفسه صديقاً قريباً لقلوب مَنْ عرفوه، جمع بين أصالة تربيته وصدق روحه، فكان حضوره امتداداً لظلال أبيه، رحل أخي جاسم بعد صراع مع مرض السرطان، لكن محبته مازالت حيّة، وذكراه تنبض بين الأصدقاء الذين أحبّوه، كأن القدر شاء أن يستمر اسم العم خالد سعود الزيد، ليس فقط في كتبه ومؤلفاته، بل في أبناء تركوا من بعده أثراً إنسانياً لا يزول.

رحم الله العم خالد سعود الزيد، ورحم الله أخي جاسم، وجعل مثواهما الجنة، وجمعهما في دار لا مرض فيها ولا فراق، دار يلتقي فيها الأحبة بسلام وخلود.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد