: آخر تحديث

كُتب بلا مؤلفين

2
2
1

عبدالرحمن الحبيب

جيانوي شون اشتهر فجأة، فمن هو؟ إنه كاتب مجهول تماماً، ظهرت له مؤخراً سيرة ذاتية مقتضبة بأنه محلّل وفيلسوف ولد في هونغ كونغ مع صور قليلة له؛ ويطرح نظرية فلسفية جديدة عن مفهوم «الهيبنوقراطية»، وهو شكل جديد من التلاعب، من خلال كتابه الذي صدر قبل أشهر بعنوان «الهيبنوقراطية: ترامب، ماسك، والهندسة المعمارية الجديدة للواقع»، ونال شهرة واسعة ونقاشات أكاديمية وفلسفية، إلا أن الصدمة أن هذا المؤلف غير موجود فهو مجرد اسم وهمي، كما كشفت سابينا ميناردي، رئيسة تحرير مجلة «ليسبريسو» الإيطالية؛ مما يحاسب عليه القانون الأوربي.

المقصود بمصطلح «هيبنوقراطية» هو نظام لتخدير التفكير النقدي أو التنويم المغناطيسي، حيث ينتقد الكتاب بناء المعلومات والمعرفة في النظام العالمي الحالي موضحاً أنه «نظام لا يُمارَس فيه التحكم من خلال قمع الحقيقة، بل من خلال تكاثر السرديات إلى درجة يصبح فيها وجود أي نقطة ثابتة أمراً مستحيلاً..

كل حدث، كل صورة، كل كلمة هي جزء من آلية لا تكتفي بتمثيل الواقع، بل تقوم باستبداله؛ فالمحاكاة لم تعد تُقلّد الواقع، بل تسبقه، إنها من تُشكّله.. وهي لا تُقدّم نفسها كنظام سردي واحد، بل ككون من الاحتمالات».

يقول المؤلف إن تجربته في التأليف المشترك بين البشر وآلات الذكاء الاصطناعي تشير إلى أننا «ننتقل أيضاً إلى أشكال من التأليف الموزع، حيث لم يعد النص نتيجة عقل واحد، بل ثمرة نظام إدراكي معقّد؛ لا أقصد هنا التعاون في التأليف بين أفراد فهو نموذج معروف منذ القدم، بل عن تطوّر مشترك بين أشكال مختلفة من الذكاء تنتج الفكر من خلال تفاعلها».

هذه النظرية وُضعت من قِبل الكاتب والمحرر أندريا كولاميديتشي، الذي، على الرغم من إدراجه كمترجم، هو في الواقع المؤلف المشارك للكتاب، إلى جانب منصتين للذكاء الاصطناعي، لكنه لم يكشف عن هذه الحقيقة حينها، مما يُخالف قانون الاتحاد الأوروبي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي يعتبر عدم تصنيف النصوص أو مقاطع الفيديو أو التسجيلات الصوتية المُولّدة بواسطة الذكاء الاصطناعي يُعدّ انتهاكًا خطيرًا.

وردًا على هذا الانتهاك، قررت الصحيفة الإسبانية المشهورة «إل باييس» التي تناولت نقاشاً مستفيضاً حول الكتاب، حذف المقال المنشور في 26 مارس الماضي، لأنه أشار إلى محتوى من الكتاب يُنسب إلى فيلسوف وهمي!

لكن أندريا كولاميديتشي ينفي أن يكون نشره للكتاب باسم وهمي بهدف تجاري قائلاً: «لو كان اسمه أندريا كولاميديتشي، لكانت مبيعاته أكبر، لكنه كان سيجعلك أقل تفكيرًا».. فما الهدف إذن من ذلك؟ يقول: «لقد فعلتُ ذلك لأن النية كانت زيادة فاعلية كل شيء، ليس فقط وضع نظرية، بل تأليف كتاب يجمع بين النظرية والتطبيق، فرصة للناس لتجربة ما يقرؤونه بعمق أكبر.. من المهم أن نُوضّح للقارئ أننا جميعًا في حالة تنويم مغناطيسي دائم.

لقد فعلتُ ذلك من خلال اختلاق قصة، لكنها كانت قصةً، منذ البداية، الغرض منها الكشف عنها. لم تكن الفكرة قط في إخفاء كل هذا، ولكن لو كشفتُ عنه مُباشرةً، لما استطعتُ أن أُظهر بطريقة عملية المعنى العميق لمفهوم التنويم المغناطيسي، وليس فقط على الورق، وليس فقط نظرياً».

أما انكشاف الطبيعة المصطنعة لشون فهو حسب كولاميديتشي: «لا يُضعف صلاحية مفهوم الهيبنوقراطية، بل على العكس، يعزّزها، ويُضفي على المفهوم بُعداً عملياً يتجاوز الجدل النظري البحت..

فمن أجل فهم الآليات التي تحكم الهيبنوقراطية فهماً حقيقياً، كان لا بد من اختبارها من الداخل، وليس فقط الاكتفاء بوصفها نظرياً من الخارج.. ويخلص كولاميديتشي إلى أن «كتاب الهيبنوقراطيا لم يُكتب باستخدام الذكاء الاصطناعي، بل كُتب من خلال استخدام محدد للذكاء الاصطناعي، يتضمن بناء نظام يضع الذكاء الاصطناعي في حوار مع بعضه البعض».

ناقش إميليو كاريلي، مدير تحرير مجلة «ليسبريسو»، هذا الجدل في مقال رأي: «في هذه المرحلة، يُطرح سؤالٌ جوهري: إذا كانت أطروحات هذا الكتاب صحيحة، أو على الأقل أثارت جدلاً ثقافياً حاداً، شارك فيه مثقفون وفلاسفة، بمن فيهم أكاديميون من معهد الدراسات التجارية العليا المرموق في باريس، والذين استشهدوا به في مقالاتهم العلمية، فهل يهم حقاً إن كان قد كُتب بواسطة الذكاء الاصطناعي؟ أو، كما في هذه الحالة، تم ابتكاره بالاشتراك مع الذكاء الاصطناعي؟ هل يمكن لهذا النموذج أن يُمهد الطريق لمنهج جديد في الفلسفة؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن تجربة «الهيبنوقراطية» الناجحة تُعلّمنا شيئاً مهماً: يمكننا أيضاً أن نبني علاقة فعّالة مع الذكاء الاصطناعي، والأهم من ذلك، أن نستخدمه لتعلم التفكير».

بعد أن أدرك الناس أن شون ليس شخصًا حقيقيًا، بل هو ثمرة تعاون بين إنسان وذكاء اصطناعي، لم ينتهِ المشروع، بل دخل مرحلة جديدة تُظهر أن شون مثال على طريقة تفكير جديدة، طريقة لا تنبع من عقل بشري واحد فحسب، بل من تعاون بين البشر والآلات. أصبح شون الآن وسيلةً لاختبار أفكار ومناهج فلسفية جديدة، ويساعدنا على فهم كيفية إنتاج أفكار مختلفة عندما نعمل معًا - بشرًا وآلات - بدلًا من الاعتماد كليًا على مؤلف واحد أو عقل فردي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد