كسرُ تواصل المشروع الميليشياوي في المنطقة مكسبٌ استراتيجي ضخم لمحور الاعتدال، ومحبي السلام. اسألوا مَن استهدفت الميليشيات بلده، فخرَّبت سلماً تاق إليه، وأشعلت حرباً لم يردها، وقضت على طموح مستحَق.
هذه الميليشيات نشأت وأنفقت وسلحت بغرض وحيد هو مدّ نفوذ راعيها على المنطقة. وفي سبيل ذلك أحيت نزعات طائفية لا تستقيم معها دولة حديثة. ونجحت عبر أربعة عقود في تحقيق أغراضها، على حساب الشعب الإيراني ورفاهيته أولاً، وعلى حساب الجوار ثانياً.
المشروع المقابل نادى بالعكس؛ بالمواطنة لا الطائفية، بتغليب مصلحة أهل البلد وبالسلم الأهلي والالتفات إلى المستقبل. إنما السياسة تهوى الأسئلة وتعشق الامتحانات، وتستمتع بـ«ماذا لو...؟».
ماذا لو نجح نظام في كسر المشروع الميليشياوي، لكنه لم يكن كامل الأوصاف؟ ماذا لو أثار تاريخه وأدبياته مخاوف من طريقة حكمه؟ ماذا لو صار وجه العملة المقابل ودخلنا في حلقة مفرغة؟ ماذا لو...؟ ماذا لو...؟
والمهم هنا ليست إجابة مَن يفكر نظرياً ويده في الماء البارد، إذ الإجابة واضحة. من السهل على هؤلاء رفضه. المشكلة أن ترجمة هذه الإجابة على أرض الواقع؛ فلتبقَ الميليشيات. لم نخرج إذن من أسئلة السياسة الصعبة. العامل المرجِّح إجابةُ أصحاب الشأن، الذين اكتووا بنار المشروع الميليشياوي، وحلموا بيوم الخلاص. وهؤلاء قالوا: «لنتمسكْ بالأمل، ولنضع الثقة في الوعود». وتلقف هؤلاء تطمينات الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع، مدركين أن المهمة أصعب من الكلام. وأظن أنهم جميعاً استعدّوا نفسياً لمفاجآت، وانتظروا من النظام المدعوم أن يقدِّر حجم الرهان الذي قدموه، وأن يتفهم حرج الموقف.
مجهود ضخم بذلته دول الاعتدال للخروج من حقبة ما بعد 1979، سنة الثورة الإيرانية وما بعدها من أحداث؛ مثل حرب أفغانستان، ثم اغتيال الرئيس المصري ومحاولة الاستيلاء على الحكم. وما أسفرت عنه الحقبة من انتشار التطرف وسيطرته على المجتمعات المسلمة، وأثره السيئ على المكانة السياسية للدول.
الولايات المتحدة أيَّدت المجاهدين في أفغانستان، وسمَّتهم «مقاتلين من أجل الحرية». لكنها تنصلت من ذلك بعد هجمات «11 سبتمبر»، وألقت باللائمة على دول منطقتنا. وتجاهل الإعلام الغربي أيضاً حقيقة أن دول المنطقة دفعت أثماناً أغلى وقدمت تضحيات أكبر. ناهيك بثمن لا يمكن حسابه متمثلٍ في تحمل العبء السياسي والاقتصادي والاجتماعي للتطرف الإسلامي.
حرب «التحرير» الأفغانية بدأت هي الأخرى قضيةَ تحريرٍ ضد «الطغيان المدعوم سوفياتياً». وكانت موجهة في شقها الأكبر إلى جيش أجنبي في الأراضي الأفغانية. فلم تفتقر إلى دوافع.
لدينا إذن تجربة مُرَّة مع التطرف السياسي الإسلامي، الذي يتلقف الدعم مُستَضْعَفاً، ويُبرز أنيابه بعد التمكين. لكن الدول الداعمة للنظام الجديد في سوريا عوَّلت على استفادة قيادته من التجارب السابقة، وأبرزها أن التسامح مع المتطرفين داخل الصفوف ليس مشكلة للعالم الخارجي فقط، بل لهم أيضاً. قادة المجاهدين في أفغانستان فقدوا السلطة عقب النصر، واستولى عليها الأكثر تطرفاً، مدعوماً بالمقاتلين الأجانب. وحوَّلوا في تجربتهم الأولى أفغانستان إلى معمل لأكثر الأفكار الجهادية تطرفاً وخيالاً وبعداً عن الحسابات الواقعية. والنتيجة، عادت الحرب وعاد الدمار.
طرحُ تلك الأفكار بصراحة ليس موجهاً ضد الاستقرار في سوريا، بل لصالح تحقيقه. لا يخدم بقايا النظام القديم، بل يخدم مستقبل سوريا. رغم المشاعر الملتهبة بعد فجائع نظام الأسد لا بديل عن صيغة تحتوي الجميع، فتعزل المتطرفين. والتأييد الواسع للاتفاق الذي جرى بين الإدارة السورية و«قسد» دليل. أثبت أن الغالبية تريد قيادة تستوعب تنوع المجتمع، وأن الداعين إلى المواجهة والحسم العسكري أقلية متطرفة لا تتحلى بالمسؤولية. كلما شارك مكون من مكونات المجتمع السوري في إدارته كان مكسباً أكبر من أي انتصار بالسلاح. وكلما انضمت مجموعة زاد الضغط على الممتنعين لكي يلتحقوا، وتراجَعَ خطر المجموعات المتطرفة، سواء من مؤيدي السلطة أو من معارضيها.
مراحل التأسيس حرجة. تدفعنا الرغبة في الاستمرار إلى إغفال إشاراتها، فننحرف عن الأمل إلى الرجاء. هي الفرصة الوحيدة للبناء على أسس تخدم المصلحة الراسخة. تضمن لسوريا الاستقرار وتسهل المهمة على داعميها. التأييد الإقليمي قرض ائتماني، يحتمل المخاطر دون الخطوط الحمراء وأبرزها النزاع الطائفي.
اعتقد بشار الأسد أن لديه خطاً قاعدياً يضمن له البقاء مهما فعل. واعتقاده هذا أضره، جعله لا يخاطر بالإصلاح المطلوب. فانزلق على قشور كلام محبيه المُهلِكة. للسياسة طرق ناعمة كالرمال، يعرف مكامن خطورتها خبراء الصحراء، فيما يسير إليها الهواة بعينين غافلتين.