نادية عبدالرزاق
تُعَد التنشئة الاجتماعية من العوامل المؤثرة في بناء هوية الطفل في مختلف مراحله العمرية، من خلال اكتسابه العادات والتقاليد والقيم السائدة من البيئة المحيطة، وتعتبر الأسرة الحاضنة الأولى له، ويأتي بعد ذلك دور المدرسة التي تعتبر من المؤسسات الأساسية للتنشئة، إلا أن التقدم التكنولوجي وما أحدثه من تطور متسارع أدى إلى إفراز عوامل أخرى تؤثر في التنشئة الاجتماعية بأساليب ووسائل حديثة، كالتطبيقات الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي التي نافست الأساليب التقليدية للتنشئة في تشكيل هوية الأطفال، فالتوسع في استخدام التطبيقات الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة واستخدام الأطفال لها وتأثرهم بما تحتوي عليه تلك التطبيقات رفع من المتطلبات الضرورية للأسرة والمدرسة في ضبط التفاعل بين الأطفال وهذه المبتكرات الحديثة.
وشهد مجال التعليم في السنوات الأخيرة تحولات سريعة نتيجة للتطورات التقنية المتسارعة أبرزها ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي يمتلك قدرات هائلة في إحداث ثورة حقيقية في تحسين أساليب التعليم والتعلم، فمنذ انطلاق هذه التقنية وهي تُستخدم في مجموعة واسعة من المجالات كالتعليم والطب والتسويق لإنجاز الكثير من المهام كتوليد الصور والأفلام وإنتاج التصاميم الخلاقة والمحتوى النصي الإبداعي، ومن أبرز تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي في الوقت الراهن تطبيق «شات جي بي تي» المختص بتوليد محادثات ذكية بصورة آلية، وتلك التقنية تُعد الأقرب لمحاكاة اللغة البشرية، حيث تساهم في أداء مهام تعليمية جديدة منها اقتراح الأفكار وتخطيط الدروس وإعداد الاختبارات وتصحيحها وتحليل نتائجها وتقييم الطلاب وصياغة العروض التقديمية، وتقليل تكلفة الموارد التعليمية والمساعدة في تطوير المناهج والقيام بالأعمال المكتبية الأمر الذي يعتبره البعض طريقاً جديداً لدعم عملية تطوير التعليم، إلا أنه وبالرغم من المميزات التي توفرها تلك التطبيقات فهي لا تخلو من الآثار السلبية المتعددة؛ ومنها التأثير على قدرات الطالب في التعلم والبحث الأكاديمي الفعًّال، بالإضافة إلى تشتت الذهن والمساعدة في زيادة حالات الغش في الاختبارات ما يترتب عليه تدني المستوى الدراسي والتحصيلي للطالب وتحويله من كائن بشري إلى أداة روبوتية. كما أن الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية يُعرض الطفل لمشاكل جمة ويُضعف من مهاراته الشخصية، حيث يحرمه من اللعب الذي يطور مهاراته فضلاً عن المشكلات الصحية كآلام الرقبة والصداع وإجهاد العين وتأخر النطق، إضافة إلى أن إدمان الألعاب الإلكترونية يؤثر سلباً على قوة الذاكرة والقدرة على التركيز، إذ تتسبب الألعاب الإلكترونية القتالية في زيادة العدوانية والعنف عند الأطفال وتجعلهم أكثر عرضة لخطر التنمر الإلكتروني فضلاً عن إهدار الوقت، بالإضافة إلى ما يترتب على التطبيقات الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي من آثار سلبية منها الاكتئاب والانسحاب من الحياة الاجتماعية والانفعال الشديد وسوء شكل الجسم لقلة الحركة وعدم الاهتمام بالحياة اليومية والهوايات.
وهنا يبرز دور الآباء والمُعلم والمربي الرقمي القادر على تحويل البيئة الاجتماعية والتعليمية التقليدية إلى بيئة تقنية محفزة للبحث والتعرف على المفاهيم العلمية الجديدة وبذلك تتحول هذه التكنولوجيا إلى أداة مفيدة اجتماعياً وتربوياً.
كما يقع على الأسرة منذ بداية تنشئة الطفل الالتزام بدمج الطفل في الإطار الثقافي العام، بإدخال التراث الثقافي في تكوينه وتوريثه إياه بتعليمه نماذج السلوك المختلفة في المجتمع الذي ينتسب إليه، وتدريبه على طرق التفكير السائدة فيه وغرس المعتقدات الشائعة في نفسه، فينشأ منذ طفولته في جو مليء بهذه الأفكار والقيم والأساليب، فلا يستطيع التخلص منها لأنه قد شَبَّ عليها وأصبحت من مكونات شخصيته، ويتطلب ذلك أن تكون الأسرة على مستوى مناسب من التعليم والثقافة والممارسة التربوية الصحيحة في تنشئة الأبناء وتوجيههم، وقدرة الآباء على الإجابة عن تساؤلات الأبناء خشية بحثهم عن مصادر أخرى للإجابة عن تلك التساؤلات، بما لذلك من مخاطر تتمثل في سموم الأفكار التي أصبحت منتشرة في الوقت الحالي على كل مواقع التواصل الاجتماعي ومحركات البحث، كما يجب على الآباء توجيه الأطفال بعناية بشأن استخدام التطبيقات الذكية والمنصات، ويتمثل ذلك في التحكم في إعدادات الخصوصية والأقفال السرية ومتابعة حسابات الأطفال ونشاطهم عبر الإنترنت والألعاب الإلكترونية، ووضع حدود يومية لاستخدام الهاتف وتعطيل تشغيل إعدادات GPS لمنع تتبع المواقع الجغرافية، وتوجيههم في الاقتصار في التواصل وإجراء المحادثات على الأشخاص الذين يعرفونهم في الحياة الواقعية، وأمام تلك التحديات يثور التساؤل الهام، ما هو تأتير هذا التقدم التكنولوجي الهائل على الأجيال الحالية في السنوات القادمة، وما هو مصير الأجيال القادمة ؟