محمد مفتي
من المؤكد أن غالبية الأحداث التي تحدث في عالمنا اليوم سواء كانت حالات احتقان أو صراعات مسلحة أو حتى أحداث سلمية ليست وليدة الصدفة، ولم تظهر للعلن بين عشية وضحاها، فالكثير من الأحداث التي نعاصرها ما هي إلا حلقة في سلسلة زمنية غُرست جذورها من سنوات وربما عقود، ولو نظرنا لما تمر به منطقتنا العربية حالياً من اضطرابات فتاكة فسنجد أن الكثير منها يعود بالفعل لعصور وفترات زمنية تاريخية سابقة، فهي نتاج فتن عديدة تم زرعها لتمزيق المنطقة وتحويلها لحلبة صراع مترامية الأطراف تعيش على صفيح ساخن، معرّضة في كل لحظة للانفجار، وتحتوي في نسيجها على قنابل موقوتة بإمكانها تدمير المنطقة بأكملها في أي لحظة.
من المؤكد أن منطقة الشرق الأوسط هي منطقة بالغة الأهمية، فهي تمثل مهد الحضارات كما تضم بداخلها العديد من الدول ذات الأهمية البالغة والوزن السياسي والاقتصادي، ولطالما كانت المنطقة محط أنظار القوى العالمية؛ ولهذا سعت لزرع بذور الفتنة بها على نحو يسمح لها لاحقاً بالتدخل سياسياً أو حتى عسكرياً، وهو ما مهد –للأسف الشديد- لنشوء الكثير من الصراعات الحالية التي تندلع ما بين فترة وأخرى، مهددة المنطقة وشعوبها بحروب ونزاعات قد تأتي على الأخضر واليابس.
على الرغم من أن الكثير من الكتب الحديثة والتاريخية تدعمها البرامج الوثائقية والقنوات المتخصصة تتضمن تفسيرات لجذور الأزمات التي يمر بها العالم في الوقت الراهن، إلا أنه -للأسف الشديد- يحاول بعض المحللين والكُتّاب تفسير الصراعات الراهنة على أنها وليدة اللحظة متجاهلين جذور الأزمات، ولذا نرى الكثير من التحليلات المجتزأة والمختصرة والتي تسعى لتحليل الأحداث السياسية اعتماداً على ما هو ظاهر للعيان فقط ومنتشرة بين الكثيرين، مما قد يوقع القارئ أو المتابع في حيرة شديدة، ويجعله غير قادر على فهم ما يحدث من حوله بشكل عميق ووافٍ.
من المؤكد أن مهنة الكتابة وتحليل الأحداث وتفسيرها التفسير الصحيح تحتاج للكثير من الجهد والمهارة معاً، وقد يعتقد البعض أن قراءة كتاب واحد فقط عن منطقة معينة أو أزمة حالية كافية لاستخلاص الحقيقة وتفسير ما يدور من صراعات، غير أن ذلك غير صحيح فكاتب هذا الكتاب قد يكون متحيزاً -عمداً أو جهلاً- أو معتمداً على مصادر لا تتوافر فيها أدنى درجات المصداقية، مما يجعل مخرجات هذا الكتاب مضللة وتعطي فكرة هي أبعد ما تكون عما حدث بالفعل، ولهذا فإن مهنة تحليل الأحداث من أجل تقديمها للقارئ تتطلب الاطلاع على الكثير من الكتب ومشاهدة البرامج الوثائقية على لسان من عاصروا الأحداث.
لا شك أن قضية الانحياز في قراءة التاريخ والحاضر هي قضية بالغة الأهمية، فعلى سبيل المثال في البرامج الوثائقية التي تعج بها الكثير من الفضائيات قد يكون السؤال بحد ذاته منحازاً، أو مصمَّماً على نحو يجعل ضيف البرنامج يسير في فلك بعينه للإجابة على هذا السؤال، وهو ما يحيل هذا النوع من البرامج لآلة إعلامية (بوق) مغرضة تهدف لتثبيت أفكار بعينها وسوْق المتابعين للسير في مدار معين لليّ أعناق الحقائق، من أجل تشويه الصورة الحقيقية للحدث وعدم التركيز بشكل متعمد على جذور الأزمة حتى تضيع الحقيقة ويظل المتابع في حيرة من أمره أو على الأقل منحازاً لأحد أطراف النزاع دون الطرف الآخر.
من المؤكد أن الإعلامي لا يكتب لنفسه، فهو يكتب لينشر الوعي ويسهم في المساعدة في فهم الأحداث التي تعصف بالعالم وبشكل منطقي، حتى لا نقع مرة أخرى في نفس أخطاء الماضي ونكررها، فالكاتب يكتب ليضيء الحاضر والتاريخ لغيره ويسهم في بناء الوعي بطريقة إيجابية، ولعل ما ينشره البعض أحياناً عبر مواقع التواصل الاجتماعي من أخبار لا تمت للحقيقة بصلة، ويصدّقها البعض وتبدأ حمى السجالات تنتشر كالنار في الهشيم، لهو أبلغ دليل على أن مهنة الكاتب هي مهمة تنويرية تهدف لإيضاح الحقائق التي يحرص على معرفتها كل مواطن غيور على بلده، فبعض من ينشر عبر تلك المواقع قد لا يستقصي الحقائق قبل أن يشاركها مع غيره، ومن المؤكد أن هذه السلوكيات هي ثقافة سلبية تصيب بعض المجتمعات بالوهن الثقافي، ولذلك تقع على عاتق الإعلامي مسؤولية بالغة الأهمية لا تقل أهمية عن دور الجندي في ساحة المعركة، فهو يضطلع بمهمة كشف وإيصال الحقائق كما هي دون تشويه أو تدليس.