ما زال السودان المسالمُ، الهادئ، الجميل، المعروف بسكانه الطيبين وطبيعته الساحرة وأراضيه الزراعية الخصبة، مسرحاً لإحدى أعنف الحروب في أفريقيا وأكثرها وحشية وقسوة وعبثية.
وبينما تحولت شوارع الخرطوم العاصمة إلى ساحة حرب، وتعيش أحياء دارفور على وقع المجازر، أصبحت بورتسودان ملاذاً مؤقتاً لحكومة تحاول التمسك بتلابيب ما تبقى من دولة كانت يوماً حلماً جميلاً.
وسط هذه الفوضى العارمة والملتهبة، يواصل السودانيون العيش في واقع أصبح أقرب إلى الموت، فقد دمرت الحرب بلادهم وأتت على الأخضر واليابس.
ومع اقتراب الصراع من إكمال عامه الثاني، يبدو أن الجيش السوداني بدأ يستعيد السيطرة على الأرض، بينما تتراجع قوات الدعم السريع، لكن هل يعني ذلك نهاية الحرب، أم أن الأمر مجرد فصل جديد من معاناة لا تبدو نهايتها قريبة؟
في الخرطوم، تعطلت مظاهر الحياة كافة، واعتاد السكان ضجيج المعارك. استعاد الجيش، أخيراً، معظم مدينة أم درمان، لكنه لا يزال يخوض قتالاً عنيفاً في شرق النيل وجنوب العاصمة، حيث ترفض قوات الدعم السريع الاستسلام.
أما في شمال كردفان، فقد استعاد الجيش مدينة أم روابة، بينما لا تزال المذابح مستمرة في دارفور، حيث يتحدث الناجون عن مشاهد أشبه بالجحيم، وعن عائلات أُبيدت بالكامل، وعن بلد يتفتت بأيدي أبنائه.
يقول الجيش، في تصريحات رسمية، إنه يحقق انتصارات متتالية وإن الحرب تقترب من نهايتها، بينما يصرّ قادة الدعم السريع على أن ما يحدث ليس سوى "إعادة تموضع" استعداداً لهجمات مضادة.
لكن الحقيقة لا تظهر دائماً في البيانات العسكرية، بل في وجوه الناس الذين فقدوا بيوتهم وأحبابهم وأحلامهم. ففي السودان اليوم، لا أحد يسأل: "من ينتصر؟" بل "متى تتوقف الحرب؟".
تحت وطأة المعارك، يعيش أكثر من تسعة ملايين نازح في ظروف كارثية. فرّ البعض إلى بورتسودان، حيث تتكدس العائلات في مدارس تحولت إلى ملاجئ، بينما يحاول آخرون الفرار عبر الحدود إلى مصر أو تشاد أو إثيوبيا، ليجدوا في كل مكان أبواباً موصدة وإجراءات معقدة.
بورتسودان، التي باتت العاصمة الفعلية للحكومة٬ لا تبدو الحياة فيها أفضل بكثير من بقية المدن التي دمرت.
يقول صديق مغاربي غامر وسافر إلى بورتسودان في الآونة الأخيرة إن أزمة الكهرباء تجعل الظلام سيد المدينة، لاسيما بعد تعرض سد مروي الذي يزودها بالطاقة لهجوم بطائرات مسيرة، كما أن المياه المالحة أصبحت الخيار الوحيد للناجين من العطش، بينما تتضاعف الأسعار يوماً بعد يوم. ليخلص إلى القول إن الناس هناك لا يشعرون بأنهم في مدينة آمنة، بل في محطة انتظار طويلة، حيث الجميع يتساءل: إلى أين نذهب بعد ذلك؟
أما في أقصى الغرب، حيث إقليم دارفور، لا يجد المدنيون فرصة للهرب، فالعنف العرقي هناك يأخذ بعداً أشد قسوة، حيث يُقتل الناس بسبب ملامح وجوههم، ولون بشرتهم، وانتمائهم القبلي أو العرقي. المستشفيات، التي كانت ذات يوم ملاذاً للأمل، خرجت عن الخدمة، ومعها تلاشى أي أمل في علاج الجرحى أو رعاية المرضى.
على الصعيد السياسي، لا يبدو أن هناك حلاً قريباً. يتحدث البعض عن انتصار الجيش واستعادة البلاد، لكن ماذا عن إعادة الإعمار؟ عن ملايين المشردين؟ وعن جيل كامل من الأطفال الذين لم يدخلوا مدرسة منذ بداية الحرب؟
ثمة من يخشى أن تستمر الحرب لسنوات، وفي أسوأ السيناريوات، قد يتحول السودان إلى كيانين متناحرين، حيث يبقى الجيش في الشمال، بينما تفرض قوات الدعم السريع سيطرتها على دارفور، ما يعني أن الحرب لن تنتهي، بل ستأخذ شكلاً جديداً.
يقف السودان اليوم عند مفترق طرق، بين حرب مستمرة وسلام يبدو بعيد المنال. لم يعد السؤال عن "من سينتصر؟"، بل "كم من الوقت يمكن أن يصمد هذا البلد قبل أن ينهار تماماً؟ أم أنه انهار بالفعل؟ وهل لا يزال هناك من يملك القدرة على الحلم بوطن يعود كما كان؟".
السودانيون اليوم باتوا راضين بأقل القليل، وتنازلوا عن كل أحلامهم التي رفعوها في مظاهرات سابقة. لا أحد هناك يتحدث عن الحرية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية، فالناس لا يحلمون سوى بالبقاء على قيد الحياة، واستعادة وطنهم الذي تحول إلى ساحة صراع إقليمي ودولي أتى على كل شيء.