بعد عامٍ ونيّفٍ على الحرب، التي جرّت الويلات على لبنان، هناك سؤال بديهي عما كان الهدف السياسي لهذه الحرب؟ قيل إنها «مشاغلة» لـ«إسناد» غزة، وتم تصوير الأمر أنها تمرين بالنار لـ«حزب» تعوَّد على «الانتصارات الإلهية»؟ وقبل أن تُطوى السنة الأولى على الفاجعة التي بدأت يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أعلن نصر الله قبل شهر من مقتله، أنها حرب منع العدو من الانتصار؟
في نهاية الشهر الـ13 على بدء أخطر كارثة، من الصعوبة بمكان معرفة حجمها وتوقع تداعيات ربط لبنان بنهاية الحرب على غزة. وهي نهاية يقررها مجرم الحرب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحده دون سواه؛ ما طرح سؤالاً آخر عن «استراتيجية الخروج» منها، بعدما أفشل «حزب الله» وثنائي بقايا السلطة: نبيه بري ونجيب ميقاتي، مبادرات خارجية جدية كان يمكن لها أن تفرمل الهزيمة إن لم تمنعها، وتجنب لبنان النتائج الكارثية؟
وبعدما باتت 37 بلدة حدودية أثراً بعد عين، واغتال العدو معالم الحياة، وترتسم صوراً غزاوية في جنوب الليطاني وشماله وفي الضاحية كما في صور وبعلبك... بحيث تجاوز عدد المهجَّرين قسراً ربع السكان، فإن سؤالاً محورياً مطروح عن «اليوم التالي». فهذه الحرب الإسرائيلية - الإيرانية أهرقت دماء اللبنانيين ودمرت عمرانهم، والأخطر أن إفراغ الجنوب من أهله وتشتيت أهالي الحواضر ذات الأغلبية الشيعية، أسس لكوارث تُحدق بكل النسيج اللبناني؟
يتبين اليوم أن حرب «الإسناد» لم تكن مطلقاً لدعم غزة، وهي لم تمنع سقوط سقف ولم تحقن دماء طفلٍ. حياة الناس ومقومات العيش لا قيمة لهم في معجم الممانعة. كان خالد مشعل يصف موت المدنيين بأنه «تضحيات ضرورية» لخدمة المشروع؟ وفي إنكار يصعب وصفه قفز نعيم قاسم، الزعيم الجديد لـ«حزب الله»، فوق الموت والدمار والتهجير ليعلن أن «تضحيات» المدنيين ثمن لقدرة «المقاومة» على الاستمرار!
فَشلَ محور الممانعة في القراءة السياسية وتدقيق الحسابات العسكرية وموازين القوى. فبات الهاجس الفعلي أمام التغول الصهيوني وقف النار بأي ثمن، من جهة لعدم تعريض النظام الإيراني لمواجهة لا يريدها، ومن الجهة الأخرى لحماية المتبقي من الضلع الفلسطيني ومنع استكمال تدمير قدرات «حزب الله» البشرية والعسكرية والاقتصادية والمالية، بعد انكشاف أمني استخباراتي مكَّن العدو من تصفية حسن نصر الله وهاشم صفي الدين ومجلس الجهاد وأكثر القيادات الميدانية، ودمّر لبنان!
خيارات «حزب الله» وارتهانه لمصالح خارجية جرّ لبنان إلى الهاوية. لم يتراجع عن فوقيته ولغة تخوين من رفض أخذ البلد إلى الدمار، وهو بعد عقود من فرض سياسة الشغور والفراغ وإخضاع الآخرين لقوة سلاحه، وتضخيم قدراته، يتحمل المسؤولية الكاملة عن الكارثة عموماً، وعن النكبة التي أُنزلت بالمواطنين اللبنانيين الشيعة خصوصاً وبقية المواطنين. مخيفة هي الخسارة التي تسبب بها، والخوف كبير أن تكون الحرب «لسه في أول السكة»؛ إذ لا تقتصر على قتل الألوف ودمار عمران يحمل تاريخاً وذكريات، وحكايات من طوَّعوا الصخر لتزهر الأرض، بل تتعدى ذلك إلى المسؤولية عن تهجير طويل الأمد، طال طائفة فقدت البيت والأرض والبنى الأساسية لتصبح خارج التأثير الفعلي في الاقتصاد والاجتماع والتعليم والسياسة!
أمام خلق منطقة موتٍ عازلة كأمر واقع، ما كان لـ«الحزب» إمكانية إنزال الكارثة بالبلد، لولا تواطؤ بقايا السلطة والطبقة السياسية مع خياراته، ممن تعودوا تلقي أوامر الخارج وتفرعنوا على مواطنين موجوعين. نعم، تقع المسؤولية على عاتق منظومة تعامت عن زرع الصواريخ في غرف النوم وتحت الوسادات، وغطت رعونة أخذ لبنان إلى حرب كان بالإمكان تجنبها. منظومة فساد وخزعبلات توقع منها المبدع زياد رحباني قبل 30 سنة في مسرحيته «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» أن تعيد البلد إلى العصر الحجري، يرتدي مواطنوه جلود الحيوانات، يمشون تائهين بحثاً عن مأوى وطعام. ودون مبالغة، إنه واقع أعداد كبيرة من المواطنين اليوم. ورغم ذلك، فإن أولوية قوى التسلط لتاريخه تعويم نظام المحاصصة؛ لذا تمتنع عن أي خطوة لإعادة تكوين السلطة كانتخاب رئيس للجمهورية ما يتيح قيام حكومة كفاءات وطنية تستعيد ثقة الداخل واحترام الخارج لتخوض معركة سياسية ديبلوماسية؛ حماية للوجود وبسط السيادة وإعادة المهجَّرين والإصلاح ومنع خطر تجدد الاحتلال إلى الأبد!
ستنتهي الحرب، والأرجح أن بقايا السلطة سترتب على البلد أثماناً سياسية لا قدرة له على تحملها. والفصل الأصعب هو «اليوم التالي» المتعلق بمعالجة ذيول الحرب ونتائجها. وعلى الأرجح سيكون بداية مواجهة الأكثرية لمنظومة الإبادة المسؤولة عن النهب والإفقار وتقديم البلد لقمة سائغة للعدو. هناك مناخات شبابية شعبية تشي بأن «اليوم التالي» سيقدم لاعباً سياسياً آخرَ يطلقه المناخ «التشريني» الموجود في ضمير الناس، أولويته منع منظومة الإجرام والتبعية من إعادة تكوين سلطتها وتسلطها، ممن فقدوا كزعامات وكتل نيابية وبنكرجية أهليتهم لتولي إدارة الشأن العام!