أثار تزامن الهجوم الشامل والمفاجئ الذي شنَّه الجيش السوداني على مواقع تحتلها «قوات الدعم السريع» في مدن العاصمة الخرطوم، بأضلاعها الثلاثة، من محاور متعددة، مع وجود الفريق عبد الفتاح البرهان في نيويورك، ولقاءاته مع عدد من الزعماء ورؤساء الدول، كثيراً من الأسئلة والتحليلات التي حاولت قراءة الحدثين من مناظير مختلفة ومتباينة.
التحليل الأول والأقرب للمنطق لذهن كثير من المتابعين أن هذا الهجوم تم التخطيط له من الأساس لكي يتزامن مع وجود البرهان في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولكي يرسل رسالة أن الجيش السوداني لا يزال متماسكاً ويستطيع قلب الطاولة على «قوات الدعم السريع»، ولهذا يجب أن توضع ملاحظاته وتحفظاته على مسارات التفاوض في أذهان الوسطاء، وتقابل بالاهتمام اللازم. وكانت الفكرة باختصار وبشكل مباشر ومختصر... «نحن هنا ولا يزال لدينا قوة وتأثير على الأحداث.... فلا تهملونا»؛ فهل وصلت الرسالة وحققت هدفها...؟
قد يختلف الناس في قراءة الموقف وقراءة النتائج، لكنني ممن يعتقدون أن الرسالة قد وصلت بدرجة ما، وأثارت الاهتمام، وأجبرت العالم على المتابعة من جديد للأحداث في السودان. وليس بالضرورة أن تصل الرسالة بالقوة ذاتها التي كان يأملها مَن خططوا لها، لكنها أيضاً لا يمكن أن تقابل بالإهمال الكامل.
هناك أيضاً قراءات لآخرين تستحق الانتباه والمراجعة، وهي من بعض المراقبين، ومنهم ناشطون في مجال «السوشيال ميديا»، ويدعمون موقف الجيش وحلفائه السياسيين. وقد قدم هؤلاء تفسيراً مغايراً يشير إلى أن هذا الهجوم خطَّطت له ونفذته عناصر داخل الجيش بالتنسيق مع هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن والمخابرات وكتائب الحركة الإسلامية المتحالفة مع الجيش، من دون علم البرهان. ويقول هؤلاء إن الرسالة الحقيقية موجَّهة من هذه المجموعات للفريق البرهان، ومفادها أنهم يريدون أن يقطعوا عليه الطريق حتى لا يقدم تنازلات للوسطاء خلال لقاءاته في نيويورك. ويتهم هؤلاء الفريق البرهان بأنه لا يريد أن يقاتل، وأنه السبب في تعطيل حراك الجيش لاستعادة المدن التي سقطت في يد «الدعم السريع».
ومضى آخرون في تقديم صورة درامية أكثر مما هو متوقَّع، وهي أن هذا الهجوم هو محاولة انقلابية لم تكتمل، لأن النتائج المتوقَّعة منها لم تأتِ كما كان متوقَّعاً، إذ كان المخطَّط أنه بعد أن تنتصر قوات الجيش وتحتل قلب الخرطوم، أن يتم الإعلان عن عزل البرهان، وتكوين قيادة جديدة.
الواقع يقول، حسب المعلومات المتوفرة، إن قوات الجيش وحلفائه شنوا هجوماً متزامناً من أم درمان عبر جسري النيل الأبيض والفتيحاب للدخول إلى وسط مدينة الخرطوم؛ حيث القصر الجمهوري والقيادة العامة للقوات المسلحة ومعظم مباني الحكومة، وأنهم عبروا الجسرين ووصلوا إلى منطقة المقرن، لكن تم صد الهجوم وعادت قوات الجيش إلى مواقعها في أم درمان، بعد خسائر كبيرة ومؤلمة في صفوف الطرفين. كما شنَّت قوات الجيش هجوماً آخر من شمال الخرطوم بحري في منطقة الكدرو، واستطاعت القوات التوغل في المنطقة حتى الحلفايا، لكنها تعرضت لمقاومة شرسة ولم تستطع التقدم كثيراً.
كل هذه السيناريوهات التي حاولت شرح ما حدث تواجه تحديات حقيقية لتثبت مصداقيتها، ولتكون أقرب للواقع وللحقيقة، كما أنها تسبب آلاماً للبعض. فالسيناريو الأول الذي يقول إنه هجوم تم الإعداد له من قبل القيادة السياسية والعسكرية ليتزامن مع وجود البرهان في دهاليز الأمم المتحدة يسبب حرجاً للبعض حين يقولون إن هذا ربما يكون آخر أوراق الجيش ومنتهى قدراته، ويفضلون بالتالي أي سيناريو آخر.
بالمقابل، فإن سيناريو التحرك المنفرد من بعض الفصائل وحكاية الانقلاب على البرهان تحتاج لدلائل وبراهين أكثر مما تم تقديمه حتى تجد نصيبها من التصديق، كما أنها بالضرورة ستشوه صورة الجيش وتشير لفقدان الانضباط، وهذه صورة لا يريدها البعض أن تنتشر فتضعف معنويات الجنود.
لم يحقق الهجوم النتائج المتوقَّعة، وسبَّب خسائر كثيرة، لكنه أيضاً أوصل رسالة بأن المحاولات ستتواصل، وأن على «قوات الدعم السريع» ألا تظن أن المعركة قد انتهت تماماً، لكنه أثار أيضاً القلق حول وضع القوات المسلحة وقدراتها القتالية ومدى انضباط وحداتها والتزام المجموعات المتحالفة معها.
أهم رسالة أرسلتها هذه المعارك للعالم أن الأحداث في السودان لم تنتهِ بعد، وأن أي قراءة سياسية له تحتاج للتحديث والتجديد المستمر، فكل يوم جديد ليس مثل سابقه.